حصاد التجريبي بين مصلحة الجمهور ومصالح وزارة الثقافة

TT

بالرغم من مخالفة التجريب للسائد من اتجاهات جمالية وأفكار إلا ان ذلك هو الذي يضفي عليه بالذات بُعدَه الاجتماعي، لذا كانت أهمية وعي من يتصدى للتجريب وضرورة ادراكه لواقعه، من أجل هذا كان من العبث محاولة الخروج إلى أية خبرة مسرحية جديدة، من دون امتلاك خبرة مسرحية سابقة أولا، ثم ادراكها معرفياً وجمالياً ثانياً، الأمر الذي يبرر سؤالنا الأول هنا ـ ونحن نتكلم عن حصاد التجريبي هذا العام ـ هل نملك ما نخرج عليه ونثور ضده من تقاليد مسرحية راسخة ـ في الوعي الجمعي ـ نبغي تحطيمها والثورة عليها، كي ننفق أموالنا في التبشير بوعي مسرحي جمالي مخالف. فاذا أجاب البعض بنعم! فهل يصبح في وضعنا الاقتصادي الراهن وتحت ظلام أمية تعليمية ـ ولا أقول ثقافية ـ تصل نسبتها إلى خمسين في المائة، ان يكون هذا المطلب من أولوياتنا الثقافية الاستراتيجية، من دون منافس لنا في ذلك بين الدول الغنية الكبرى، التي تمتلك جمهوراً ذا ثقافة متقدمة وتقاليد مسرحية راسخة ناهيك عن ميزانيات هذه الدول الهائلة؟ ترى هل ترغب وزارة الثقافة في استقطاب اتجاهات التجريب العالمية ـ خلافاً لطبيعة حركات التجريب، ومفاهيمها المختلفة بل المتعارضة ـ من أجل تحويلها من حركات فنية هامشية لكل منها معاييره الفنية الخاصة التي يحاول الخروج عليها، إلى مؤسسة تجريبية راسخة المعالم يجمع بين فِرَقِها ـ ولا أقول بين فُرقائها ـ اختلاف اللغة، وتباين الثقافات، وتفاوت الظروف الاجتماعية، وتباعد الأسئلة، وقبل هذا وذاك اختلاف المنطلقات الجمالية المراد بها الاحتجاج على ما هو سائد من وعي مسرحي محلي يختص ببيئات ثقافية عديدة، ويختلف بفداحة عن الوعي الجمالي السائد لمجتمعنا المصري بل عن الوعي الجمالي لمجتمعاتنا العربية كافة! أما عن مهرجان هذا العام، فقد أجمع كثرة من المثقفين والنقاد على وجود سلبيات عدة، تبتدئ بأخطاء اختيارات الفرق المسماة «تجريبية»، ولا تنتهي بمستوى الأبحاث المقدمة في هذا السياق، ولا أستثني الشخصيات المكرمة أو كفاءة أعضاء لجنة التحكيم، ولن نتناول هنا بالنقد نشرة المهرجان الهزيلة التي لم يزد بعض ما كتب فيها عن نقل ما ورد في نشرات الفرق عن عروضها، مع بعض المجاملات الطريفة المنثورة هنا وهناك! وان كنا نحيي الجهد المبذول في إثراء المكتبة المسرحية بمجموعة مهمة من الكتب المترجمة التي صاحبت دورات المهرجان.

ولم يكن التحكيم في هذه الدورة موفقاً، حيث كانت النتائج مفاجئة للمختصين وللجمهور على حد سواء، وكمحصلة نقدية عامة، نستطيع القول ان الاتجاهات العامة للعروض الجادة المشاركة في المهرجان انحصرت في ستة اتجاهات رئيسة:

الأول: اتجاه يتبنى ـ منذ المبتدأ ـ نفي الحدود الفاصلة بين الأنواع، معتمداً على المفهوم ما بعد الحداثي للعرض، ككتلة فنية واحدة، تتجاور فيها أساليب فنية متعددة ومختلفة، تدفع إلى علامة نصية كبرى، من دون الاهتمام بمبدأ نقاء النوع. وكان العرض الروماني «الميلاد» لمسرح «كرايوفا» القومي مثالا على هذا الاتجاه، مقترباً من التأثيرات الفنية للسينما، حيث مزج المخرج بشكل موفق بين خشبة المسرح والسينما في إطار لوحات تتبادلها الشاشة والخشبة المسرحية، وفي صيغة أقرب ما تكون إلى المونودراما، تتعامل مع موضوع التهديد النووي.

الثاني: اتجاه يتكئ بقوة على تقاليد أداء مسرحية محلية، مبتعداً عن المفهوم السائد بأن المسرح اختراع إغريقي، طارحاً بقوة سؤال نسبية التجريب، وامكانية انطلاقه من شكول الفرجة الشعبية وتجليات أدائها. وكان العرض الياباني «حكاية برج القلعة» لفرقة «كونا اوكا» مثالا طيباً في هذا الاتجاه. انفصل في هذا العرض الأداء الصوتي عن الأداء الحركي الذي شغل الفضاء المسرحي وكأنه لوحات توضيحية تصاحب الأداء الصوتي لرواة الحكاية. واستخدم العرض آلات موسيقية محلية، وحُمِّل بنزعة طقوسية في الأداء، كما قام العرض على قصة تراثية أو اسطورية معروفة ـ غالباً ـ لدى المتلقي المحلي، ونلحظ فيه أثر التقاليد الفنية لـ«البانوراكي والكابوكي» اليابانيين. الأثر ذاته الذي شاهدناه في العرض الكوري «صخرة هان جونج» لفرقة «مسرح القلعة» والذي ذكرنا ببعض تقنيات مسرح الكابوكي الكوري قبل انتقاله إلى اليابان واشتهارها به. ومزج العرضان بحرفية أدائية عالية بين نوعين من الأداء: التقليدي والمعاصر، وانتمى عرض الفلبين كذلك إلى الاتجاه ذاته حيث استُغِلَّت الشخصيات كأدوات استخدمها الكورس في أثناء أدائه الحكائي لقصة بطل شعبي اسطوري في مغامراته، ويقع تحت هذا الاتجاه العرض المصري «الملك العريان».

الثالث: عروض قامت على الارتجال بنوعيه الحركي والنصي، مرتكزة على جماليات الغياب وعمل المصادفة، مثل العرض المكسيكي «العناق» لفرقة مسرح «بريوكتو فينيسترا»، والعرض الروسي «عيد ميلاد شيلنتانو» لمسرح جومل للدراما، والذي اقترب تكوينه الدرامي من روح الكوميديا المرتجلة، ويُعَدُّ الحفاظ على إيقاع هذه العروض مهمة شاقة لغياب نسق واضح متفق عليه سلفاً بين الممثلين.

الرابع: عروض قامت على الاعداد الكامل لنصوص كلاسيكية وإعادة بعثها من جديد، تاركة المجال لعقلها الحديث أن يُعيد التفكير في عقول من كتبوها، ناثرة إسقاطاتها من قلب النص القديم على المعاصر والآني، حيث تتخلق حالة الاقناع هذه من خلال رحلة اكتشاف صادقة تتوتر بين النص الأصلي وتحققه عبر جماعة من الممثلين من جهة، وبين تفعيل سكونية النص عبر تأويله وإعادة اكتشافه ثم بثه في إيقاع جديد عبر لغة تواصل جديدة، تتعامل مع المتلقي بشكل فني جديد من جهة أخرى. وكان العرض اليوناني «اورستيا، شذرات من لغة تراجيدية» لفرقة «ديادرومي» خير مثال على هذا الاتجاه، حيث اعتمد العرض على مختارات متنوعة من نص الاورستيا للمؤلف الأقدم «اسخيلوس»، وقام على اقتباسات تتميز بالمفارقات، واعتمد على «الكريولوجي والكريوجرافي» في الأداء، مشكلا لوحات منحوتة بعناية من جسد الممثلين متضافرة مع ما تم اقتباسه من النص. وينتمي لذات الاتجاه العرض الايطالي الجميل لفرقة «لافابريكا دللاتوري»، المعد من رائعة تشيكوف «طائر النورس»، وهو عرض قام على تفكيك النص الأصلي ومجاورة أحداثه التي أدتها مجموعات صغيرة من الممثلين متزامنة في الوقت ذاته وليست متتابعة، مستخدمة الأسلوب «البوليفوني» الموسيقي في الأداء، ويستحق العرضان كلاهما الجائزة الاولى لتكامل صنعتهما الفنية على مستويات فنية عديدة.

الخامس: اتجاه يتكئ بشكل كامل على لغة الجسد في تتابعها نحو مسار نصي له نزعة حكائية، وسياق لا يعتمد على الكلمات، محرراً المسرح من قيود النص المكتوب بسمتيه الكلاسيكيتين الوفرة والكمال، وذلك باللعب على مفهوم التخلق الذي سينمو من خلال غياب النص الثابت، عبر التفاعل بين فريق العمل بكامله من أجل الوصول إلى كتلة نصية إيحائية لها أثر جمالي صادم، عن طريق الاعداد والتحلُّق حول الاقتصاد الحركي ذي الدلالة المتحررة من مؤسسة اللغة ومحمولها القهري السياسي والاجتماعي. وكان من أنضج هذه العروض العرض البحريني «الصراع» لفرقة مسرح الجزيرة، الذي استخدم الموسيقى كعنصر لا غنى عنه في تأويل العرض، وفي الاتجاه ذاته كان العرض الروسي «فانتازيا» لفرقة مسرح الأيدي، وقد تلجأ بعض تجليات هذا الاتجاه إلى فصل المسرح عن الأداء مع عدم وجود أصل، وكأنه أداء يقاوم النتيجة مثل العرض النمساوي «آنا فاجري» لفرقة «نادي الفن.. يوم الخميس»، وقد يتخذ هذا الاتجاه تفتيت أية سيطرة لمبدأ تنظيمي محسوس، أو شيء ثابت يسمح للعالم حوله بالتشكل والامتداد، منعاً لأية دينامية داخلية تفصح عن الموضوع، مثل العرض الفنلندي «أشياء ومشاعر» لفرقة «كوفاديس». وينتمي العرض البلغاري «أنا وفاوست» لفرقة «مسرح ستوديو 4xc» إلى الاتجاه ذاته، حيث تبرز لغة الجسد كحركة فرد وكمجموع، السكون فيه حركة، مثلما يكون الصمت في الملفوظ لغة وحديثا، ويقوم هذا العرض على تقطُّع المعنى، وخلق الفجوات بين المشار إليه والإشارة.

السادس: تقع تحت هذا الاتجاه عروض لا تنتمي إلى التجريب وان كانت ذات نزعة تجريبية، عروض لم تستطع استيفاء شرط التخلق التَّزَمُّنِي بين النص والعرض كجديلة واحدة، بل كان جل اهتمامها منحصراً في تحويل النص الدرامي من وسيطه الكتابي إلى حالة تحققه المسرحي العادية، من دون هيمنة التجريب كآلية تفكير إبداعية على العلاقة بين النص والعرض. لذا استندت هذه العروض ـ بمعنى ما ـ على آلية تفكير تقليدية وبعضها كان مكرراً، ومن أمثلة هذه العروض العرض التونسي «عدن.. عدن» للمسرح الوطني التونسي، والعرض السوري «عيشة» للمسرح القومي السوري «مسرح الرصيف» الذي اتخذ قالب المونودراما شكلاً له، والعرض اللبناني «ارخبيل» لفرقة مسرح بيروت، كما يقع تحت هذا الاتجاه العرض المصري «رسالة الطير»، حيث قامت النزعة التجريبية في العروض المذكورة على الاضافة إلى وعي جمالي تقليدي وتزيينه، ولم تقم على الاهتمام بشعرية العرض ومفارقته للسائد منذ المبتدأ.

وكانت هناك عروض شديدة الضعف والتهافت تحتاج لجان تحديد مستوى وتقييم لا للجان تحكيم ولا يصح بأي حال اشتراكها في المهرجان، فضلا عن اعتبارها عروضاً تنتمي إلى التجريب.

هكذا يهتم التوجه المسرحي الحديث بالأداء، ويعتمد عليه في نفي حتمية النص المسرحي، في الوقت ذاته الذي لا يسلم فيه بوجود مشاهد موضوعي له رأي ثابت في العرض، ان العرض التجريبي الحديث ينكر المعرفة الصادقة للأشياء، متحرراً في موضوعه من القيم والفروض الخارجية.

من هذا الفهم، وفي ظل هذا التباين الفادح في المنطلقات والظروف، يصبح احتضان مهرجانات كهذه ترفاً غير مبرر، حيث اقتصرت الاستفادة على قلة القلة من المتخصصين في المسرح الاوروبي واتجاهاته المعاصرة دون غيرهم من عامة الجمهور الذي كان من الواجب الاهتمام به ـ ولو جزئياً ـ عند وضع أية استراتيجية ثقافية تتبناها وزارة الثقافة، وتقع اعباؤها على كاهل هذا الجمهور بالذات، وميزانية الدولة المخصصة لتعليمه وتثقيفه، وامتاعه!! من هنا لم نستغرب ما تتضمنه ـ من دلالات ـ دهشةُ رئيس لجنة التحكيم «وليام بارتلان» من الدعم المالي الذي تخصصه وزارة الثقافة سنوياً من أجل اقامة مهرجان للمسرح التجريبي في مصر!! مستكملاً: تَّم رفع الدعم الحكومي عن المسرح الاميركي بناء على رغبة الكونجرس. ترى هل كان ذلك حفاظاً على ميزانية الدولة في إطار أولوياتها الاستراتيجية، أم تقصيراً من دولة بحجم الولايات المتحدة في اهتمامها بالفن المسرحي وجمهوره؟

وفي ضوء افتقاد ـ الجمهور العام ـ للثقافة المسرحية الأساسية وجمالياتها الكلاسيكية والتي يُبنى عليها ـ بالضرورة ـ أي تصور حقيقي وجاد يرغب في استضافة ما يطلق عليه «مهرجان لمسرح تجريبي»، يحق لنا السؤال ونحن نشاهد ختام هذه الدورة لمهرجان المسرح التجريبي عن مجموع حصاد دوراته السابقة.. وهل كان لمصلحة الجمهور أم لمصالح وزارة الثقافة، وما تقوم به مما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا.. من.. خلفه!