الفلوت السحري من تعبيرية إيمانويل باخ إلى الرومانسية الفرنسية

TT

ليس اكثر من آلة «الفلوت» او الناي قدماً، فهي ترجع إلى اكثر من عشرين الف سنة إلى الوراء. إلى الصين ربما، وربما إلى كل بقعة من الارض وُجد فيها الانسان الأول. فهي لا تحتاج إلى اكثر من تكوين مجوف: محارة، قصبة او عظم، لكن «فلوت» الاوركسترا اليوم على درجة عالية من التشتيت والتعقيد معاً، على الرغم من ان صوته يتولد من ذات التقنية القديمة الاولى: هواء من الفم يندفع باتجاه حافة فينقسم إلى داخل التجويف وخارجه لكن هذا الانقسام يولد صوتا مميزا إلى حد بعيد يرتبط لدينا، نحن ابناء الشرق، بالافق الرعوي الواسع. وظل كذلك لدى الغرب، لكن فقط حين يرتبط هذا الصوت بالموسيقى التي تعتمد منهاجاً او حكاية، مثل مشاهد الاوبرا، او «ظهيرة الفوند» لـ «ديبوسيه» مثلا. في الموسيقى المجردة يستقل «الفلوت» بمادة صوتية تحفر مجرى خاصاً فيه شيء من الدكنة، ولا يعنيها الالتحاق بأفق تتلاشى فيه.

«الناي» الذي لدينا يشبه ما يسمى في اوركسترا الغرب «الريكوردر»، وهي آلة انفصلت كثيرا عن «الفلوت»، الذي لم يعد خشبياً، على الرغم من انه عضو في عائلة «الخشبيات الهوائية»، التي تضم «الاوبو» و«الكلارينيت» و«الباسون». في القرن الثامن عشر انتهت آلة «الفلوت» إلى صياغة جعلتها مؤهلة لدخول عالم الاوركسترا. ولذلك يعتبر النصف الاول من هذا القرن عصر «الفلوت» الذهبي. واول خصائص هذه الصياغة انها بدأت تعزف من جانب، لا من النهاية على طريقة «الريكوردر» كما ان سعة وقوة الصوت اصبحتا اكثر طاقة، وعزز هذه الطاقة والغنى اقبال المؤلفين الموسيقيين لوضع الاعمال لها. وتظل مساهمة «يوهان سباستيان باخ» في «سوناتات الفلوت» وفي «ميوسيكال اوفرنغ» و«كونشيرتو براندينبيرغ» الخامس اسمى المساهمات والقاعدة التي ينطلق منها فن التأليف لهذه الآلة.

لكن لـ «باخ» الكبير ابنا اوسط هو كارل فيليب ايمانويل باخ (1714 ـ 1788). ورث موهبة ابيه شأن اخوته وبرع في آلة الفلوت. درس الموسيقى والقانون وعمل في خدمة فريدريك الثاني طوال ثمانية وعشرين عاما. وكانت اعماله الموسيقية في الفن السيمفوني ريادة حقيقية نضج تحت ظلها كل من هايدن وموتسارت وبيتهوفن في ما بعد. وعلى الرغم من ان معظم اعماله ما زالت منسية في مخطوطاتها إلا ان ما عزف منها وسجل يكشف عن موهبة فنان حقيقي، فسيمفونياته الاربع (ما زلت اسمعها في الاسطوانة السوداء مع العمل الكورالي «ماغنينيكات») وكذلك اعمال كونشيرتو التشلو وسوناتا الاوبو انما تعكس روحا موزعة بين الاستسلام للسياق الكلاسيكي الذي يفرضه العمل في بلاط فريدريك الموسيقي حيث لا اثر للنبض الشخصي وبين الانتفاض على هذا السياق باحتدام تعبيري ينبئ بكل ما تخبئ النفس وما ستتمتع به الرومانتيكية في ما بعد.

هذا الموسيقي المنسي لا عن حق اصدرت له دار Black Box ثلاثة كونشيرتات لآلة الفلوت، التي يعزفها الانجليزي مارتن فينستين مع الفرقة التي اسسها وسميت باسمه. وهي مع دراستها لمرحلة «الباروك» تفضل عزف موسيقاها على الآلات الموسيقية الحديثة. ان براعة وحذق مارتن اوصلا ذات الطبيعة الشخصية المحتدمة التي تحدثت عنها في موسيقى ايمانويل باخ، فهناك دائما «اندفاعات مهتاجة متعارضات صادمة في الحركات السريعة، خاصة الحركات الاخيرة تذكر بالاهتياج والتصادم في سيمفونياته، تلك التي استهوت بيتهوفن في ما بعد. الحركة البطيئة في الكونشيرتو الثاني في هذا التسجيل غاية في العمق وكأنها تنقل دقائق زمن لا نهائي لروح ملتاعة.

في النصف الاول من القرن التاسع عشر وبالضبط عام 1832 اكمل عازف الفلوت الالماني «بويم» الشكل النهائي لآلة الفلوت حين ادخل عليها نظام المفاتيح المعدنية ذات الاذرع التي تحرك بالاصابع حيث اصبح العزف عليها اكثر سهولة. ولقد اخذ عنه الفرنسي لويس دوروس هذا الاهتمام حيث اصبحت هذه الآلة المتقدمة اكثر شيوعا في فرنسا، خاصة بفضل تلميذه عازف الفلوت الشهير كلود ـ بول تافانيل (1844 ـ 1908) الذي طمع كثيرا من الموسيقيين الفرنسيين الكبار لتأليف اعمال لآلة الفلوت. من بين هؤلاء كان غونو (صاحب اوبرا «فاوست») وماسينيه (صاحب اوبرا «تاييس») وبيزيه (صاحب اوبرا «كارمن»).

دار Black Box اصدرت تسجيلا آخر لموسيقى هذه الآلة تحت عنوان فانتاسيز «موسيقى الفلوت الفرنسية الرومانتيكية»، وتضم مختارات من تأليفات هؤلاء. وعازف الفلوت هذه المرة الايرلندي ادوارد بيكيت، الذي تشبع بطابع الفلوت الفرنسي لانه درس هذه الآلة في فرنسا سنوات عديدة ولم يستقر في لندن الا اخيراً التسجيل يضم 14 عملا قصيرا لموسيقيين ينتسبون عمليا للنصف الاول من القرن العشرين ولكن حرارة الرومانتيكية ما زالت تضطرب في أعماقهم وأكثرهم لا يتمتعون بالشهرة التي يتمتع بها «رافيل» و«فوريه» وسان سون، ومنهم من عقدت شهرته على عمله المختار لهذه الآلة، مثل «هنري بوسير»، الذي وضع مؤلفه «الاندلس» (1933) المفعم بالرائحة الاسبانية استجابة لموجة التأثر بالموسيقى الاسبانية الجنوبية التي اجتاحت فرنسا آنذاك والجميع وضعوا اعمالهم من وحي عازف ماهر هو «تافانيل» ولذلك تفترض عازفا ماهراً كل حين تعزف فيه و«ادوارد بيكيت» ذو طواعية للمشاعر الرومانسية وذو مهارة في الاداء والتقنية.