لوحات كخريطة فكرية تقود إلى مكان واحد

معرض «لمسات من العبقرية» في بروناي غاليري

TT

افتتح في قاعة بروناي غاليري في بداية هذا الاسبوع معرض «لمسات من العبقرية» بمشاركة 34 فنانا عراقيا موزعين على اماكن مختلفة من العالم.

وجاءت المشاركة الاكثف من جيل الثمانينات بأعمال متنوعة لعدد من رموز هذا الجيل سواء من المقيمين في بغداد أو في أوروبا وأميركا وكندا.

في عزلته التي اختارها لنفسه في منفاه، يعيش حميد العطار (بريطانيا) جو الهزيمة والجمود بعطاء غزير مخضب بشحنات عاطفية متدفقة. العطار، هذا المحاصر، المسكون بكثافة أساطير تتقافز مجسدة من لوحاته يعبر عن تراكم من الرعب التاريخي، وكأنه ينفخ في بوق ينفث ناراً من بوابات تاريخ مفتوح على الجحيم.

هذا الاحساس الطاغي بتاريخ مكتئب يلقي بظلال تختلف درجاتها من فنان عراقي معزول يعيش منفاه في الداخل، وآخر يعيش الشتات في المنفى.

ظلال أخرى تمتد كخيوط ملونة تربط مجموعات الفنانين بعضها ببعض، معالجات وتقنيات ولجها الخمسيني شاكر حسن آل سعيد تشكل عاملاً مشتركاً دخل بدرجات مختلفة (بوعي وبلا وعي) سطوح لوحات أعداد من الفنانين المشاركين في هذا المعرض، عناصر طلسمية ملغزة، أبعاد نفسانية، أنظمة بناء مجردة، اللعب واللعبة.. كلها دخلت في نظام يرسم شكل ومضمون فن وجد نفسه في عالم خارج السيطرة، فن يكاد في غالبيته ان يحمل صفة تجريدية حدسية! تمزق هناء مال الله (بغداد) نسيج سطوح أعمالها بحدة محررة نفسها من عقلانية بحثها، في حين نجد ان نديم محسن (هولندا) يحافظ على أسرار طفولته رافضا باستمرار تحكم البالغ فيه، فهو ينجز أعماله الفخارية ومنجزاته في مجال النحت والحفر والرسم بروحية جرافيكية تلقائية مختزلة.

(محسن) مزيج من طفولة تلقائية وخيال جامح، وبلوغ تقنية وأفكار وبساطة ممزوجة بشحنة تركيبية باطنية، من المسطح والمجسم، اليدوي والـ Digital.

يحتفظ كريم رسن (بغداد) بمخطط لعبة هدفها كسر حدوده الذاتية للوصول بها الى حالة انسانية مفتوحة ومشتركة، وذلك عبر خربشات تلقائية لتعاويذ مشخصة بأساليب تقنية ومواد مختلفة على سطوح لا تتقيد بزمن محدد، وبينما يحتفظ كل من مال الله ومحسن ورسن بمصداقية المادة وحسية السطوح تعمل ايمان عبد الله (المانيا) على احياء شحنات تعبيرية في أعمال تعبر بصدق عن خصوصيتها وعواطفها التي يتضح فيها شغف المريد الذي يتوغل في طريق الاكتشاف.

طلال رأفت (المانيا) يشارك الفنانين الأربعة السابقين روحية البحث والاهتمام الجرافيكي غير انه على خلاف جوهري معهم في البيئة العاطفية لبحثه، ففي أعماله ارتباط غير متعمد بالجذور كشريحة غنائية رهيفة تبحث في آثار متلاشية لألغاز يمكن ان تدلنا الى ذاكرة الأولين المشفرة، غنائية عقلانية في التعامل مع الهوية من خلال فردية البصمات.

الهوية في حالة سعيد جبار فرحان (سويسرا) هي المنفى تحديداً. فهو يردد أغنية أزلية يكشف من خلالها عن جمالية خافتة تدل على الطريق وتعود منه! استطاع أن يطور نزعة طلسمانية الى كتابة واشارات فردية ذات طاقة فاتنة لعبور ظلال المجهول، وهو يعبر بجلاء عن الانسان المنفي المكشوف (غير محصن). أعماله لها مرتبة ايقونية تحمل مفاتيح عزيزة لأبواب فقدت مفاتيحها.. يعيدها في اعماله الى أناس لا وجود لهم! يأخذ هيمت محمد علي (فرنسا) الخط ليعيده الى جذوره الأولى بعد أن يحوره الى لغة لها سيادة في مخيلة ذات واقع حلمي تخوض في فراديس غير مأهولة. في أعمال هيمت إرادة لمس أرضية ثقافية مشتركة من خلال أنماط عضوية لتحريك اعادة رقصة التعارف الأولى.

فنان آخر يعمل داخل مضمار مشابه هو صادق كويش (هولندا)، في أعماله ميول فلسفية، وهو يمنح من خلالها ذاته لانجاز أعمال باحثة عن وعي جديد بالوجود. مواجهة سرية مع اعطاء الايمان بأن للفن والفنان دوراً كهنوتياً.

مجموعة من الفنانين يخلقون بيئات مشحونة بدلالات كجانب من عملهم الابداعي، الفنان الكردي ربوار سعيد (بريطانيا) يؤكد على ارتباطه الوثيق بجذوره، انه فنان ذو أبجدية واضحة، ألوان أزياء نسائه الكرديات الزاهية، الوجوه الشاحبة لآلاف النساء والاطفال والرجال الذين استشهدوا في حلبجة تنبثق بشحنة غنائية مضطربة، خطوط جرافيكية بدائية قريبة لروحية متشبثة بأرض صلبة. عمل ربوار ملتزم ودعائي مستفز، مبني على التزام سياسي تحريضي. التجديد على مستوى العناصر التشكيلية ليس من أولوياته، فهو يوجه جل اهتمامه الى تسجيل ايقاعات مرئية لنبرة الغناء الجبلي الكردي.

محمود العبيدي (كندا) يتواصل من خلال خصوصية روحية، بيئة لم تدنس، الى مكان يتحرك فيه الزمن على شكل خطوط مفعمة بالعفوية. في رسومه دعوة لاثبات هوية غير مثقلة بالترسبات.. أتساءل في ما اذا كانت تجربة العيش في أقصى شمال كوكبنا ستؤثر كثيراً في رؤيته التي بدأت بكسره لغطرسة المثلث (الذي كان ايقونة) الى اهتمام حالي بالدوائر والأشكال الكروية؟

المكان الجديد له سحره التفاعلي في الفنان، سحر يجعله يحور ثقل الرصاص الى نشوة الضوء الى وحي ثم انبعاث، فتحفيز يدعوه لتنقية عناصر فنه، في السويد اذ حل عدد من الفنانين العراقيين الشباب نجد ان ابداعاتهم الفنية سرعان ما شحنت بطاقة لم تكن حاضرة في وعيهم، دفعتهم الى عملية تجديد ذات طبيعة عضوية مركزة مناهضة للتاريخ منسلخة عن التراث بكل اشكاله الايقونية الرافدينية والعربية الاسلامية، كما في الاعمال النحتية للفنان الكردي شورش أمين والجرافيكية للفنان حقي جاسم الذي يمتاز بحيوية تشير الى موتيفات محصورة بسلسلة متوالية من التغييرات تتواشج مع التضاد المفرط في تغير الفصول من شمس تشرق حتى منتصف الليل الى شتاء معتم في وضح النهار. في أعمال مها مصطفى وابراهيم رشيد كل على حدة وكثنائي، رد فعل حسي مباشر من البيئة المحيطة بهما يتمثل في مادية مجردة ذات حس مكاني فيه منطق المستكشف الذي يحاول اعادة تكوين قيم جديدة لذاتيته.

كمال السلطان (اسبانيا) بعد رحلة اختراق وجدانية اكتشف المحمية التي سبق ان لجأ اليها اسلافه العرب الأوائل الذين خلقوا غشاء من الاحلام والمجسدات ذات دلالات عميقة.

في هذه البيئة الابداعية المركبة اشتغل الفنان ورفيقاه جعفر طاكي ومنير السعداوي على تكثيف رؤية تعبيرية في توليفة من الفنون التشكيلية المعاصرة التي تحيطها الجوانب الايقونية للفن العراقي تخفت الى ما تحت المستوى الادراكي للفنانين الثلاثة لتخرج بشكل غير مباشر بتلقائية أعلى من خلال خطوط ومعالجات الحفر. اسبانيا كانت بالنسبة الى هؤلاء الفنانين نوعاً من الخلاص من الذاكرة العراقية التي ينوء تحت ثقلها زملاؤهم في بلدان الشتات الاخرى وفي داخل العراق.

من أميركا شارك اسامة ختلان برسم فوتوغرافي. واذ يقدم نوعاً من التنقيب في النفس الانسانية بمواجهة بين تجزئ الوعي واعادة بناء الذاكرة تكنولوجياً. فنه عبارة عن تمرير الضوء عبر الفوضى مستخرجاً طاقة خاصة من التحوير الذي يمكن أن يعيد توضيح التوقعات في عصر الخيبة. يجسد في أعماله فكرة الفنان الغاطس في ذاتيته من خلال صور فوتوغرافية معالجة بالرسم.

ليلى كعواش، ميسلون فرج، جنان العاني، نهاية خلف، يتناولن موضوع الهوية بأحاسيس انثوية. هوية ليلى كعواش نقاط معرفية متباعدة تكثفت لتخلق منها امرأة متحررة من النزعة الاقليمية تستكشف في أعمالها دراما مقتبسة من مصادر شتى، بحثها يؤكد على قوة الروحية النسوية المكبوتة داخل أوهام ثقافة محكومة بابداع ذكوري. ميسلون فرج (بريطانيا) فنها نابع من ايمان بحرمة التقاليد المحافظة الموضوعات التي تتناولها غالباً ما تكون راجعة الى مواثيق مبدئية مغمسة في حس الانتماء، الخير، الخصوبة، الايمان بالرسالة التوحيدية، الهوية.

الفخار شكل وسيطاً تعبيرياً ثرياً لعدد من فناني المعرض كنديم محسن ومها مصطفى وميسلون فرج، لكن نهاية خلف (هولندا) تصب كل ابداعها في منحوتات فخارية ذات طابع بدائي، كسرت رتابتها باطلاق العنان لمزاج النار كي يشخص وينوع في الاشكال، سبع سنوات من السفر والهجرة قد تكون غيرت من ملامح (خلف) السطحية غير انها لم تستطع ان تمس دواخلها التي حافظت بقوة على مصادرها الرافدينية.

تشكل المفقودات جزءا مهما من احاسيس جنان العاني (بريطانيا) مثلما تشكل التصورات المسبقة عن اصولها الأولى جزءاً من مساحة التعبير عندها، فهي تستعين بصور انسانية منسية أو محذوفة لتشكيل أعمالها التي تدخل في تنفيذ حشد من التقنيات الفوتوغرافية الرقمية.

هناك في المعرض من تقتسم ابداعاتهم مجالات مهنية اخرى كالتصميم والرسم للصحافة. علي المندلاوي (بريطانيا) وصل لندن عبر محطات من المتاعب والمنافي، تميزت كل مرحلة فيها ابتداء من قريته الكردية الى بغداد وشمال افريقيا واوروبا بإنتاج مجاميع من الاعمال الفنية. وكان أحد الاعضاء البارزين مع هناء مال الله ونديم محسن الذين ساهموا في رفع مستوى الرسم للطفل في العراق الى مستويات متميزة. ذاكرة قريته التي هدمت خلال حرب الخليج الأولى تعيش في مجموعة من الأعمال السردية التي تؤسس لأسلوب خاص يتراوح ما بين التوضيحي وفن رفيع يحيل الى المنمنمات الاسلامية. وفي أعمال أخرى يغربل فحوى المجرد ليملأ عالماً مرئياً من البناء التمهيدي.. الجماليات الرقيقة التي طورها تمد رسالتها بالثقة بتجربة فيها تلقائية الاكتشاف من دون ان يفقد فيها تلك البراءة النادرة التي ترعى رؤياه. ويؤكد سينا عطا (البحرين) وهو مصمم جرافيكي بحرفية تقنية عالية، على دافع تعبيري يوجه اسلوب وصوله لانتاج أعمال فنية حميمية تعطي طبيعة شخصية مضاءة بعلاقات عابرة بتواز غريب مع بعضها لتطرح جمالية تتحدى زوال الآني في حياتنا.