«جرس الغطس والفراشة».. موت يثير شهوة الحياة

فاز بجازة الكرة الذهبية كأفضل فيلم أجنبي وأفضل إخراج

مشهدان من الفيلم
TT

كان من الطبيعي أن يفوز فيلما: atonement The Diving Bell and the و Butterfly بالكرة الذهبية كأفضل فيلمين لعام 2007 أحدهما عن فئة الأفلام الناطقة بالإنجليزية والآخر عن فئة أفضل فيلم أجنبي. والسبب أن الاختيارين يتسقان مع بعضهما بعضا. فكلاهما مأخوذ عن كتابين من أعلى الكتب مبيعاً ويتناولان تجارب انسانية خاصة، كما تم إخراجهما بشكل يتناسب مع المستوى الفني الرائع الذي كتبا به. ولكن الأول يتناول قصة خيالية والآخر يتناول تجربة واقعية. وقد كان الفيلم متكامل العناصر مما جعله يحصد جائزتين هما أفضل إخراج وأفضل فيلم أجنبي منتصراً بذلك على خصمه القوي: الفيلم الروماني «4 أشهر و3 أسابيع ويومان» الذي فاز بالسعفة الذهبية في كان وفاز بجائزة الفيلم الأوروبي. والجدير بالذكر هنا أن المخرج الأمريكي لفيلم «جرس الغطس والفراشة»، جوليان شنابيل قد فاز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان أيضاً. ويستمد الفيلم قوته من أنه يتناول تجربة انسانية رائعة حين استطاع الصحافي الفرنسي جون دومينيك بوبي المحرر في مجلة الأزياء المعروفة Elle «إل» وهو في الثالثة والأربعين من عمره، بعد إصابته بشلل كامل أفقده القدرة على الكلام والحركة، أن يكتب كتاباً يحكي فيه عن تلك المرحلة من حياته. نرى في بداية الفيلم جون دومينيك بوبي أو جون دو (ماثيو أمالريك) وهو يعود إلى وعيه، بعد أن فقده في الغيبوبة، وهو في غرفته بأحد المستشفيات الفرنسية، ويحاول أن يستوعب ما يحدث حوله. تتحول الكاميرا منذ بداية الفيلم إلى عيني جون دو، فنرى ما يراه وبنفس الطريقة التي يراها به وهو مستلق في فراشه. وقد أدى المصور السينمائي جانوسز كامينسكي، الذي قام بتصوير فيلم «قائمة شيندلر» أيضاً، عملاً رائعاً. يسأل الطبيب جون دو بضعة أسئلة ونسمعه يجيب عنها، لكن الطبيب لا يسمعه، ونكتشف حينها مع اكتشاف البطل نفسه أن لا أحد يسمعه وأنه غير قادر على النطق، وأن ما نسمعه نحن هو صوته الداخلي الذي سيفتح لنا عالمه وأفكاره، ولكن دون أن يعي ممن هم حوله ما يفكر فيه. يضعنا المخرج منذ بداية الفيلم في وضع جون دو ونستوعب معه تدريجياً ما يحدث من حوله. وفي لقطة رائعة جداً ومخيفة في بدايات الفيلم نرى الطبيب يبدأ في خياطة عينه اليمنى خوفا من أن تتعفن ونرى خلالها الإبرة تخترق العين مع كل غرزة والرؤية تنحسر معها وصوت جون دو الداخلي يعترض إلى أن تختفي الرؤية تماماً لنعلم بعدها أنه لم يعد يرى إلا بعين واحدة. وبرمش هذه العين سيبدأ في التواصل مع من هم حوله، فعندما يغمض عينه مرة واحدة فهذا يعني نعم وعندما يغمض عينيه مرتين فهذا يعني لا. ومع كل اغماضة تختفي الصورة حتى يفتح عينه مرة أخرى. يخبر الطبيب في ما بعد جون دو بأنه مصاب بما يسمى «عرض المسجون داخلياً» وهو يعني ببساطة أنه محروم من تحريك أي جزء في جسمه أو الكلام وحتى عينه اليمنى تمت خياطتها، ليبقى له وعيه الكامل وعين واحدة فقط. وهي حالة يشعر فيها جون دو أن الزمن متوقف ولذا فهو يلجأ إلى شيئين لا يستطيع أحد أن يأخذهما منه وهما «ذكرياته وخيالاته». أو بمعنى آخر الفراشة، كما أطلق عليها، وهي الحالة التي يتنقل فيها ليستل من شريط ذكرياته ما يشاء، ومن خلال هذه الذكريات نتعرف على شخصيته، على قصة حبه الجديدة وحياته الحافلة بالمغامرات، وأبيه وأحاديثهما الخاصة، وعلى أطفاله واللحظة التي أحس فيها بأعراض الجلطة التي أدت به إلى حيث هو. وعلى خيالاته أيضاً التي تعبر به حقول الزهور والجبال والمحيطات وتتنقل به في ممرات المستشفى، وتجعله يلعب مع أطفاله ويعانقهم ويتلذذ بأكل المحار. ومع أن الكاميرا كانت ترينا باستمرار كل هذه العوالم الداخلية التي تموج داخل جون دو، كانت أيضا تعيدنا إلى واقعه الذي لا يستطيع من خلاله أن يطرد ذبابة حطت على وجهه، أو أن يخبر الممرضة أن تترك له التلفزيون ليشاهد لعبة كرة القدم أو أي أمر آخر من أمور الحياة البسيطة. إنه الواقع الذي أطلق عليه جون دو «جرس الغطس» الغطس في مياه راكدة وهو سجن الروح داخل جسد عاجز. ولكن هل يمكن للروح أن تسجن؟

يرينا الفيلم أنه رغم هذا القدر من العجز شبه الكامل استطاع جون دو أن يقدم لنا كتابا رائعا في تأملاته في الحياة وعن هذه المرحلة الصعبة من حياته. وإذا أردت أن تعرف كيف فعل ذلك فعليك أن تشاهد الفيلم. وعلى الرغم من أنه يحكي عن إعجاز انساني ويجعلنا أكثر إيماناً أن قدرات الإنسان لا حدود لها وتفوق الخيال بالفعل، لكنه في تعبيره عن هذه التجربة لم يتبع السيناريو المدرسة الهوليودية كما رأينا على سبيل المثال في فيلم «عقل جميل»، فلم يكن هناك من إضافات أو تغييرات في القصة الحقيقية وإنما كان أقرب للسينما الأوروبية الواقعية التي هي في الحقيقة تجعلك أكثر تأثراً وأكثر توحداً بمشاعر بطل الفيلم وحالته.

تتكامل عناصر الفيلم لتخرج لنا رائعة سينمائية: فالمخرج جون شنابيل هو فنان تشكيلي تعرض له أعمال في عدة متاحف أمريكية وقد أخرج قبل هذا فيلمين: أولا «Basquiat» وهو قصة حياة فنان تشكيلي أمريكي ثم Before the night falls والذي رشح عنه الممثل الإسباني خافيير بارديم لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل أول. ولكن «جرس الغطس والفراشة» حسب رأي الكثير من النقاد هو أجمل أفلامه. أما سيناريو وحوار الفيلم، فقد كتبه رونالد هارود الذي سبق وأن كتب سيناريو وحوار فيلم «The Pianist»، وقد كتب نص هذا الفيلم بشكل جميل حافظ فيه على الروح التي كتب بها جون دومينيك بوبي مذكراته. والجدير بالذكر أن شنابيل أصر على أن تكون لغة الفيلم هي اللغة الفرنسية على الرغم من معارضة الشركة المنتجة، وذلك لأنه لم يكن يريد أن يفقد لغة بوبي الشعرية. ومن أجل ذلك فقد تعلم شنابيل الفرنسية حتى يتمكن من إخراجه بهذه اللغة. وإضافة إلى التصوير السينمائي المميز وعالي الحرفية من كامينسكي، هناك أيضاً الأداء التمثيلي المبهر حقاً لماثيو المريك، فالدور يستدعي أوضاعاً جسدية صعبة كما أن وجهه كان معبراً للغاية. بالإضافة إلى الأداء الجميل للممثل ماكس فون سيندو الذي قام بدور الأب وطاقم الممثلات الشابات الجميلات: ايمانويل سيجنر، أولاتز لوبيز جارمينديا، ماري جوسي كروز، هينريت دارود، آن كوسيجني.

بقي أن نذكر أنه على الرغم من أن أجواء الفيلم تأملية وأن به بعض المشاهد المؤثرة، خاصة حوار جون دو الهاتفي مع أبيه، لكنه أيضاً مليء بالفكاهة وروح المرح رغم كل شيء. فهو فيلم يمتزج فيه المرح والضحك بالدموع والألم بالأمل. إن شخصاً على حافة الموت يثير فينا شهوة الحياة بكل تفاصيلها.

[email protected]