«لا وطن للمسنين».. حنين يكسر الأنماط ويمزج الأجناس

الفيلم المرشح لثماني جوائز أوسكار والحائز ثلاث جوائز بافتا وجائزة الكرة الذهبية لأفضل نص مقتبس

مشهدان من فيلم «لا وطن للمسنين»
TT

حظي فيلم No country for old men للأخوين كوين منذ عروضه الأولى باحتفاء نقدي واسع. فعرضه الأول كان في مهرجان كان، حيث رشح للفوز بالسعفة الذهبية. وهو مرشح لجائزة الأوسكار عن الفئات التالية: أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل نص مقتبس وأفضل تصوير وأفضل تمثيل لممثل مساعد (والمرشح لها هو خافيير بارديم) وأفضل صوت وأفضل مكساج. وقد فاز أخيراً بجائزة البافتا لأحسن إخراج وفاز مصور الفيلم روجر ديكنز بجائزة أحسن تصوير سينمائي، وفاز الممثل خافيير بارديم مرة أخرى عن دوره في الفيلم بجائزة أحسن فيلم مساعد. إضافة إلى فوزه بجائزة رابطة النقاد كأفضل فيلم لعام 2007 وأفضل إخراج وبالتأكيد جائزة أفضل ممثل مساعد لبارديم. كما فاز مخرجا الفيلم ايثان وجويل كوين بجائزة نقابة المخرجين عن إخراجهما لهذا الفيلم وحظي طاقم الممثلين بجائزة أحسن أداء جماعي من نقابة الممثلين وعادة ما ترجح جوائز النقابات، خاصة نقابة المخرجين الفيلم الفائز بجائزة الأوسكار عن فئة أفضل إخراج وأفضل فيلم. كل هذا يؤكد أن عشاق فيلم الجريمة حصلوا هذا العام على فيلم سيبقى محطة في تاريخ مخرجيه وتاريخ هذا النوع من الأفلام. نص الفيلم مقتبس من رواية كورماك ماكارثي، وهو إضافة إلى توماس بينتشون ودون ديليلو وفيليب روث أهم الروائيين المعاصرين وقد حاز على جائزة البوليتزر، أهم الجوائز الأدبية في الولايات المتحدة. حتى إخراج هذه الرواية له كان يعد من أصحاب الأعمال الروائية غير الصالحة للاقتباس في أعمال سينمائية ولذلك فلم يقتبس من أعماله قبل هذا العمل سوى فيلم واحد هو «كل الجياد الجميلة» الذي لم يحظ باستحسان النقاد. عنوان الرواية، وتبعاً لها الفيلم، مأخوذ من القصيدة الشهيرة للشاعر الإيرلندي المعروف ويليم ييتس «الإبحار إلى بيزنطة» والتي يقول مطلعها «تلك ليست وطناً للمسنين» (That is no country for old men) والتي تتناول الطبيعة البشرية من خلال وصف رحلة الانسان المجازية إلى الحياة الأبدية. لكن الفيلم ليس فيلم جريمة فقط، فهو إضافة إلى الترقب وحبس الأنفاس والتشوق لمعرفة ما سيحدث يأخذنا إلى ما هو أبعد من ذلك. فهو يحمل الكثير من المعاني الفلسفية والمفاهيم الخاصة. ويبدو في هذه الحالة كم أن الرواية بما تحمله من مفاهيم متسقة ومتناغمة مع الأخوين كوين من حيث أن كلا الطرفين تدور أعماله حول القدر والمصادفة، حيث تحدد مصادفة ما قدر الإنسان وتجره إلى نهاية بعيدة كل البعد عما تخيله. وهو أمر قد رأيناه مسبقاً في أعمالهما السابقة، خاصة في أهم أعمالهما Miller’s crossing الذي اختارته مجلة التايم ضمن أهم مائة فيلم سينمائي خلال القرن المنصرم وFargo الذي جلب للأخوين جائزة الأوسكار والكرة الذهبية لأفضل نص مقتبس.

يبدأ الفيلم بلقطات جميلة لمناظر طبيعية مهجورة ومقفرة في غرب تكساس، حيث المكان الذي تدور فيه أحداث الفيلم وحيث الزمن كما نعرف فيما بعد هو 1980. ثم نسمع صوت عمدة البلدة إد توم بيل (تومي لي جونز) وهو يخبرنا كيف أن المنطقة تغيرت وكيف أصبح العنف طاغياً. ثم نرى أحد رجاله يعتقل. ونعرف فيما بعد مع تقدم الأحداث، أن اسمه انطون شيغور، وهو آلة قتل متحركة. تأخذنا الكاميرا إلى مكان آخر لنتعرف على الشخصية المحورية الثالثة إلى جانب العمدة وشيغور، وهو لحام سابق يدعى لولين موس (جوش برولين) يصوب بندقيته نحو قطيع من الوعول وبعد إطلاقه الرصاص وتفرق الوعول يذهب لتتبع طريدته، وإذا به يفاجأ بعد قليل من المشي في الصحراء بعدد من الجثث ملقاة فيما يبدو أنه عدم اتفاق بين مجموعتين على صفقة مخدرات انتهت بموت أفرادها ولم يبق إلا شخص واحد على وشك الموت. ولكنه وأثناء تفحصه لآثار المعركة يعثر على حقيبة بها مليونا دولار ويأخذها. وهنا تبدأ المطاردات. لولين يهرب بالنقود واهماً أنه سيستطيع الفرار بها وتحقيق أحلامه ويحاول أن يخبئ زوجته (كيلي ماكدونالد) بعيداً عن أعين العصابة التي يعرف أنها ستحاول العثور عليه لأخذ النقود. ولكن ما لا يعرفه هو أنه أمام أناس لا يرحمون، وأنه أصبح وبسرعة شديدة معروفاً من قبل كل المعنيين بصفقة المخدرات. فهناك أولاً المجموعة المكسيكية التي تلاحقه للحصول على المال وهناك انطون ذلك القاتل الذي يتجول بسلاح غريب يقتل به معظم من تقع عيناه عليه بينما يقرر مصير البعض بعملة معدنية يقذفها عالياً ويجعلهم يختارون أي وجه ستقع عليه فإذا صح اختيارهم تركههم يذهبون من دون قتلهم. وهناك أيضاً العمدة تومي لي جونز الذي يطارد الاثنين ويود أن يعثر على موس سليماً قبل أن يقتل على يد العصابات. في وسط هذه المعمعة والمطاردات هناك أيضاً شخص آخر لا نعرف اسمه (ستيفن روت) نراه في مكتب فاخر يطلب من شخص آخر يدعى كارسون ويليس (ودي هارلسون)، استرداد مبلغ المليوني دولار والقضاء على شيغور. يبدو ويليس على معرفة تامة بشيغور وماضيه ولكن هل تنفعه هذه المعرفة يا ترى؟ في هذه الأثناء نرى الشخصية الأساسية في الفيلم وهي شخصية العمدة. يعيش حالة من اليأس وهو يشاهد هذه الجرائم تحدث حوله وهو لا حول له ولا قوة. إنه يعيش في أزمة روحية لا يجد لها حلاً. ويبقى شعوره بالحنين لزمن ولى إلى غير رجعة طاغياً على أجواء الفيلم كله. عامل الترقب والقلق يبلغ أشده مع تتابع الأحداث بشكل يذكر كثيراً بالمدرسة الهيتشكوكية التي يدرك الأخوان كوين جيداً أساليبها، ويعرفان كيف توظف اللغة البصرية باقتدار. وما يجعلهما مطورين لها أن الموسيقى التصويرية تم توظيفها في 15 دقيقة فقط من الفيلم وهي مسألة غير مسبوقة من قبل في هذا النوع من الأفلام الذي تلعب فيه عادة الموسيقى التصويرية دوراً كبيراً، كما أن الموسيقى المستخدمة في الفيلم هي أصوات أجراس البوذيين و Singing bowls (زبديات من نوع معدني خاص أو مصنوعة من الكريستال تصدر أصواتا حادة وتستخدم في المعابد البوذية وبعض مراكز التأمل). وقد تم توظيف هذه الأصوات بشكل رائع، كما أن الصمت الذي كان غالباً على الفيلم زاد من حدة التوتر والترقب وكأن شيئاً مخيفاً على وشك الحدوث.

في الفيلم كسر لكثير من الأنماط المعتادة لهذا النوع من الأفلام وفيه مزج لأكثر من مدرسة ولكن بصبغة يمكن أن يطلق عليها الآن صبغة كوينية خالصة. فالفيلم، أولاً، هو مزيج من أفلام الإثارة ( أفلام الجريمة) وأفلام الويسترن مع نوع من الكوميديا السوداء التي يعرف بها الأخوان. فهما وفي تصريح لهما في جريدة «الغارديان» البريطانية ذكرا استلهامهما بشكل خاص للمخرج سام بيكينباه مخرج أفلام الويسترن المعروف. وإضافة إلى ذلك هناك جماليات الصورة التي يعرفان بها مع روجر ديكنز، وهو المصور الذي عمل معهما حتى الآن تسعة أعمال. وقد عززت جماليات الصورة الإحساس بالحنين والفقد وكأن هناك من ينعي زمناً غادر إلى غير عودة. أما آخر الأشياء التي تم كسرها في الفيلم فهو تلك النهاية العجيبة الصادمة لكل من اعتاد مشاهدة أفلام الجريمة وهي جرأة تحسب للمخرجين اللذين اختارا كسر النهاية النمطية. كثيرة كانت مفاجآت الأخوين في هذا الفيلم وهي حتى الآن كانت في صالحهما، ولكن يبقى السؤال القوي مطروحاً: هل تتوج هذه المفاجآت بأوسكار أفضل فيلم وأفضل إخراج لعام 2007؟ [email protected]