الأخوان كوين.. ظاهرة فريدة في السينما الأميركية

بناء الشخصية علامة فارقة في أفلامهما

من فيلم « Big »
TT

لم يكن استحواذ الأخوة كوين على النصيب الأكبر من حصة جوائز الأوسكار الأسبوع الفائت يمثل أي مفاجأة لكل متابع للسينما الأميركية طوال العام الفائت، فشريطهما الأخير «لا وطن للعجائزNo Country for Old Men» كان فيلم العام بلا منازع، وهو منذ عرضه لأول مرة في مهرجان «كان» في دورته السابقة وهو يحقق نجاحات متوالية، وخروجه من المهرجان خالي الوفاض كان مستغربا بدون الإقلال من قيمة أي من الأفلام الفائزة الأخرى في مقدمتها الفيلم الروماني المتميز «4 Months, 3Weeks and 2Days». وعلى كل الأحوال فإن الأخوين حققا ما كانت تفتقده خزينة جوائزهم التي الفت «كان» وجوائزه، وفازا بأوسكار أفضل فيلم وإخراج وسيناريو دفعة واحدة بعد أكثر من 20 عاما من العطاءات المتواصلة والإسهامات البارزة في مسيرة السينما الأميركية.

والحديث عن سينما الأخوة كوين يستوجب الإشارة ولو في لمحة سريعة عن حالة السينما الأميركية وصورتها العامة. فقد ساهمت السينما الأميركية ومنذ فجر تاريخها على تكوين «متخيل» راسخ ومحكم في عقلية مشاهديه، ويتمظهر ذلك المتخيل في إحدى صوره في ثقافة العنف بأشكالها النفسية والجسدية والاجتماعية والبيئية. وهذا ما نتجت عنه وبصوره تلقائية قولبة نمطية سائدة استحوذت على مساحه واسعة في الأعمال الأميركية، سواء من أفلام «رعاة البقر» والغرب الأميركي أو الجريمة المنظمة وأفلام العصابات وتجارة المخدرات أو العنف والتفكك الاجتماعي أو الحفر التاريخي والتي تصور التاريخ الأميركي كخليط من عرقيات متصارعة لاهثة وراء تحقيق كينونتها بأساليب أخلاقية أو لا أخلاقية، قانونية أو لا قانونية، أو غيرها من الموضوعات السينمائية الشائعة، بل وحتى القانون أصبح جزءاً لا يتجزأ من منظومة العنف تلك ممثلا بالقضاء أو الفساد السياسي أو في ابسط صورة برجل الشرطة و«شريف» البلدة. وبالقدر الذي ساهم هذا التدفق الصوري النمطي الهائل في ترسيخ تلك الصورة المتخيلة انعكس بالقدر نفسه سلبا على حركة الإبداع السينمائي، التي تنخفض وتيرتها بين وقت وآخر. أما الأخوة كوين فقد كانا في معية قلة قليلة من شخصيات سينمائية أميركية أخرى تحاول دائما تجريد السينما الأميركية من نمطيتها المتأصلة، وإخراجها من قالبها المعتاد، وكانا ضمن موجة سينمائية بدأت ارهاصاتها في السبعينات الميلادية مع أسماء مثل وودي الن ودايفد لينش وغيرهما من رواد سينما المؤلف الذين احتضنتهم السينما الأوروبية واحتفت بهم كرعاة لهذه الحركة المتجددة. وبينما كانت تلك الأسماء تنحو نحو النمط الأوروبي في نسقها السينمائي، سواء في تحويرها لأساليب السرد أو الحوار أو الصورة، فإن سينما الأخوة كوين تميزت بخصوصية فريدة ليس على المستوى الأميركي وحسب، بل وحتى على المستوى الأوروبي والعالمي، وهو ما سنشير إليه في الأسطر التالية.

إن منهج الأخوة كوين بدا واضحا منذ أولى الأعمال التي عرضتها الشاشة لهما وذلك في أفلام مثل «Blood Simple» عام 1984 و«Raising Arizona» عام 1987 إلا أن تلك الأعمال بقيت حبيسة خصوصيتها وجمهورها النخبوي المستقل، بالإضافة إلى أنها لم تكن تملك الأدوات الكافية لخلق منهج جديد بكل أبجدياته في صناعة الفيلم. وانطلاقتهما الحقيقية كانت مع فيلم «Miller"s Crossing» عام 1990 ومن ثم حققا ما يمكن أن نطلق عليه سينما كوين وذلك في مع رائعتهما المحكمة «Barton Fink» عام 1991 والذي صنعا من خلاله صيتا عالميا واسعا تمثل في فوزهما بالجائزة الكبرى في مهرجان «كان» السينمائي في تلك السنة.

لقد كان بارتون فينك تأسيسا حقيقيا لآيديولوجية الأخوة كوين الفكرية والتي كثيرا ما تصادم بكل سخرية الذخائر الأخلاقية لدى الفرد، كما وتنظر إلى المنظومة الاجتماعية بنظره عبثية عشوائية، فمفهوم «البحث عن السعادة» الذي أكد عليه ميثاق الاستقلال الأميركي وقام عليه حلم الفرد الأميركي كانت له مضاعفات سلبية أضفت ضبابية على أخلاقيات ذلك المجتمع. فهل السعادة مكفولة بتحقيق مسبباتها؟! ومن هذا التساؤل انطلقت كل أعمال الأخوين، ومن هنا وبصورة أساسية تشكلت العبثية التي نتحدث عنها، فلا العصامية، كأحد أسباب السعادة، يمكنها تحقيق ذلك كما في بارتون حيث الكاتب المبدع والخلاق، ولا الحلاق الطموح كما في « The Man Who Wasn"t There » أو المستشار الحاد الذكاء كما في « Miller"s Crossing»، وفي المقابل فإنه لا يمكن للحظ العاثر أيضا تحقيقها كما « The Big Lebowski» الذي يجد فيه لبوسكي العاطل وفي لحظة ما فرصة ثراء سانحة لم يحسن استغلالها ولا رجل الكاوبوي الحصيف «No Country for Old Men» الذي ظن وفي لحظة ما أن السماء أمطرته بما لم يكن يحلم به. إن النجاح والسعادة بل وربما سيرورة الحياة بأكملها لدى كوين كانت نصيبا عبثيا لا وجود لمسبب حقيقي لها، فشرطية عادية حامل لا تتمتع بأي درجة مميزة من الذكاء، ولا القوة الجسدية الفائقة ولا أي إمكانات أخرى تستطيع في « Fargo» ما عجز عنه شرطي محنك وذكي ويمتلك خبرة ونظرة بعيدة كما هو في « No Country for Old Men» أو « Barton Fink». كما أن مجموعة من الحمقى الهاربين من السجن، والتي استنفرت من اجلهم أجهزة الدولة، استطاعوا ودون أي سبب حقيقي تحقيق نجاح فني منقطع النظير وذلك في فيلم «O Brother, Where Art Thou? ». فلا وجود لحتمية تحقيق السعادة كما لا وجود لمسببات حقيقية لها، من جهة أخرى فإن العنف ينهج ذات النهج العدمي، وكأن ثقافة العنف قد تمكنت من الذات الإنسانية فأصبحت مذهبا عقائدي وحاجة فطرية. إن هذه العبثية البالغة الحدية في المفهوم الفكري لأعمال الأخوة كوين كان له تأثير بالغ على أسلوبهما الفني التي تغلف بها شرائطهما، فالحبكة الحكائية والقصصية لدى كوين لم تكن على الدوام بذات أولوية قصوى، فهي تأتي ثانيا أو ثالثا حتى من حيث الأهمية وهي إضافة إلى ذلك لا تسير على الأغلب في خط تصاعدي، وإنما تتطور بصور متذبذبة ومتغيرة في كل لحظة وتتبع أكثر من خط قصصي بدون الإخلال بالسرد الكلاسيكي، فأغلب اللقطات متوسطه الطول، وعمق الصورة تتفاوت ما بين اللقطات المتوسطة والواسعة الغائرة في العمق، كما أن الزمن يسير بشكل خطي منتظم بدون استخدام أي أسلوب من أساليب الانتقال بالزمن كالفلاش باك أو القفزات الزمنية أو الزمن المتوازي. وتعود هذه المهارة العالية في الحفاظ على هذا النمط الكلاسيكي في السرد في مقابل تعدد الخطوط القصصية في الفيلم بصورة أساسية إلى الخاصية الأبرز التي تتميز بها أعمال كوين. إنها بناء شخصياتها.

إن بناء الشخصية تكاد تكون علامة فارقة في سينما الأخوة كوين لا تماثلها أي سينما أخرى على الإطلاق. فقدرتهما على خلق شخصيات متجددة ومتباينة في كل عمل تحمل في ذاتها متناقضات عدة ترفع من وتيرة الحدث، كما وتعطي الشخصية ثقلا ترابطيا مع المشاهد نادر الحدوث، ففي الوقت التي تكون الصورة السينمائية وتوتر الحدث هما الجاذب الأكبر للمشاهد بغض النظر عن متانة الشخصية، نجد أن الشخصية عند كوين هي المحور الذي يدور حولها كل شيء. ولا شك أن كل شخصية من تلك الشخصيات تحتاج إلى دراسة وافية ومستقلة في دوافعها وفلسفتها في الحياة ونظرتها إلى المجتمع المحيط بها. حقق الأخوان انجازهما الأبرز الأسبوع الفائت على صعيد نجاحاتهما الفنية، إلا أن حضورهما الجماهيري كان قد تحقق قبل ذلك بسنوات عديدة. وسينماهما التي كان يشار إليها سابقا بأنها ظاهرة سينمائية وحسب لم تعد كذلك، إنما هي مدرسة فنية لها سحرها ونكهتها المميزة التي جعلت من الشقيقين من ابرز صناع السينما على الإطلاق.

[email protected]