طلال مداح.. زارع الورد في حدائق الوجدان

TT

«حينما انتقل الفنان طلال مداح في عقد الستينات الميلادية من الطائف إلى جدة استأجر شقة بشارع الميناء على تخوم حي «الهنداوية» الشعبي، فأغرى ذلك الجوار صبيا من أندادي على استثماره، وكان ذلك الصبي يمتلك موهبة الشعر، لكن طموحه لم يكن منطقيا، فهو لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر، حينما بعث بنص غنائي عبر البريد إلى «سيدة الغناء العربي» أم كلثوم، طالبا منها أن تغني من كلماته.. وظل فترة طويلة بعد ذلك يتابع حفلات أم كلثوم بشغف لعلها تفاجئه بغناء قصيدته حتى داهمه اليأس، فكتب رواية بعث بها إلى المطربة والممثلة شادية لكي تحولها إلى فيلم من بطولتها، ومضى لفترة يتابع أخبار الأفلام الجديدة من غير أن يعثر على خبر لفيلمه، لكن قدوم طلال للسكن على مشارف حيّنا، جعله يحوّل مؤشر البوصلة من أم كلثوم وشادية إلى طلال مداح.. فطلب مني ذات مساء أن أرافقه إلى شقة طلال لكي يعرض عليه عددا من نصوصه الغنائية، وكانت شهرة طلال مداح آنذاك في قمة انطلاقتها، بعد أن حققت أغنياته «وردك يا زارع الورد» و«سويعات الأصيل» وغيرهما انتشارا لم يحظ به فنان من قبل.. حينما وصلنا إلى العمارة التي يسكنها طلال أوقفنا دراجتنا أسفل العمارة، وصعدنا سلالمها بقدر كبير من الثقة، وفتح لنا طلال باب الشقة، فعرف صاحبي نفسه بشيء من الزهو وقد استبق اسمه بلقب الشاعر، وأشار بإصبعه إليّ بأنني مجرد مرافق له، وكأنني أتخيل طلال قد كبت ابتسامة ساخرة في ذلك الحين، وهو يتأمل ما علق بنا من كآبة المنظر، وغرابة الحال.. وبلطفه المعهود رافقنا إلى المجلس مرحبا، وحينما اطلع على كلمات صاحبي اجتهد في أن يكتشف فيها بيتا لم يكسر أو قافية لم تُخدش.. وحتى بعد أن أعيته النصوص، لم يفقد روح المجاملة، فقال: «أجد فيها روحا شاعرية، لكنها تحتاج إلى المزيد من القراءة حتى تصقل»، وتناول ديوان شعر على الطاولة لأحد الشعراء، وكتب عليه إهداء بخطه إلى صديقي، متمنيا له مستقبلا في عالم الشعر»..

لم أجد ما أبدأ به الكتابة عن طلال مداح، العلامة الفارقة في تاريخ الأغنية السعودية سوى هذه الحكاية التي تكشف جوانب أساسية من شخصيته، وفي مقدمتها اللطف، ودماثة الخلق، ورقة الطبع، فطلال ليس فنانا فحسب، لكنه شخصية تجمعت فيها الكثير من السمات المثالية التي جعلت المسافة بينه وبين الآخرين وهما.. وهو مرهف الحس إلى الدرجة التي لم يكن يتحمل معها الكثير من صدمات الحياة، ففي تاريخه الفني حالات من العزلة أو الغياب امتد بعضها أشهر طويلة، وحينما عاد من إحداها ـ ذات مرة ـ وجد الفنان أبا بكر بلفقيه قد اختطف الساحة الفنية بأغنيته «قلبي المتعوب ما حصل دواه»، ويعلق طلال بخفة ظله المعهودة: «لقد أتعب قلبي يومها بلفقيه قبل أن استرد جمهوري».

سألته قبل وفاته بثلاث سنوات عن رصيده في البنك، فأطلق ضحكة خجولة وهو يحدثني عن رقم متواضع جدا، فأردفت سؤالي بآخر قائلا: «أنت مررت بنفس الفرص التي مر بها الفنان محمد عبده، فلماذا التمايز بينكما ماديا؟..»، فقال على الفور: «هناك فرق جوهري، فأنا يتيم الأم، وهو يتيم الأب، فكانت خلف محمد عبده في بداياته أم تحنو عليه فاهتمت بالمحافظة على دخله، أما أنا فلقد افتقدت مثل هذه الأم العظيمة في تلك البدايات، فكان يومي عيدي!».

والحق أن في شخصية طلال مداح قدرا كبيرا من بوهيمية الفنان، حتى حينما كوّن شركة اسطوانات «رياض فون» في عقد الستينات، لم يعرف عنه انشغاله بالحسابات والأرقام والواردات والمنصرفات، فلقد ترك أمر ذلك كله إلى شريكه الفنان لطفي زيني، واهتم هو فقط بالجانب الفني من عمل الشركة، فالمال بالنسبة لطلال لم يكن أكثر من وسيلة لتلبية احتياجاته الأساسية، وقد لا يخطر المال بباله إلا عند حاجته إليه، فلم يكن يسيطر على ذهن طلال فترة طويلة من حياته سوى الفن، الذي أفرد له مساحة كبيرة من طاقاته الذهنية وشحناته الوجدانية..

ويورد الكاتب محمد السحيمي قصة عن طلال لها دلالاتها، فثمة متعهد لإحدى الحفلات في القاهرة وقع في حرجٍ كبير، نتيجة اعتذار أحد المطربين المشهورين، قبيل أيام من موعد الحفل، الذي نفدت تذاكره تماما، وكان طلال موجوداً في القاهرة بالصدفة، فلجأ إليه المتعهد لإنقاذ الموقف، وقدم له «شيكاً» مفتوحاً، تاركاً له تحديد المقابل المادي، فما كان من«صوت الأرض» إلا أن كتب عبارة «يدفع لحامله مبلغ.. كلمة مَحَبَّة»، وأنقذ المتعهد.. ويقول السحيمي: «ولم يصرف هذا الشيك، إلا يوم وفاته، حيث شيَّعه ما لا يقل عن مائة ألف «مُحِب»، من الحرم المكي الشريف، إلى مثواه الأخير!».

وفي الوقت الذي انقسمت فيه الساحة الفنية السعودية على مدى عقود إلى فريقين، فريق طلال مداح، وفريق محمد عبده، ظلت تربط طلال مداح بمحمد عبده الكثير من الروابط الجميلة، وما أكثر المرات التي شاهدتهما معا بعيدا عن عيون الجمهور يتبادلان الإشادة، فطلال كان يدرك دائما حاجته إلى محمد عبده في ساحة المنافسة، بنفس القدر الذي كان وجوده ضروريا لتألق محمد عبده..

ولا يمكن الحديث عن شخصية طلال من دون التوقف عند جوانب الظرف في شخصيته، فهو أكثر الفنانين ظرفا وحبا للمداعبة، وتقبلا لها، وأطرف الحكايات في الوسط الفني يمثل طلال المداح العنصر المشترك فيها، ومن هذه الطرائف ما يرويه طلال حول اشتراكه مع الفنان الكبير عمر كدرس في إحياء إحدى الحفلات الغنائية، وخشي طلال أن يهيمن الكدرس على الجمهور، فاقترح عليه أن يقدم تقاسيم على العود ويتبعها ببعض قصائد عبد الوهاب وأم كلثوم، ولم يتردد الكدرس عاشق الروائع من الاستجابة لذلك، وخانه أن يدرك في تلك اللحظة وهو الخبير، بأن لتلك الروائع أجواءها الخاصة وجمهورها المختلف، ليأتي بعده طلال مداح برائعة الكدرس «يا سارية خبريني» ثم يعقبها بـ «وردك يا زارع الورد»، فاستولى على الجمهور وهيمن عليه، وأدرك الكدرس بعد فوات الأوان أن نصيحة طلال مداح له في تلك الليلة مقلب ظريف من مقالب طلال مداح الكثيرة معه.. وروى لي طلال مداح حكايته مع سيارة فوزي محسون العتيقة التي تتطلب قيادتها أن يركب معه شخص آخر لكي يسند كرسي السائق برجليه من الخلف، وفي نهاية إحدى السهرات في مدينة الطائف، تسلم القيادة طلال مداح في طريق العودة إلى جدة، واكتفى فوزي بإسناد المقعد من الخلف، لكن غلبه النوم فخارت قدماه عن إسناد المقعد، واستيقظ ليجد طلال قد سقط بجواره في المقعد الخلفي، والسيارة تهرول خارج خط الإسفلت قبل أن تغرس عجلاتها في الرمال.

ويروي طلال أيضا كيف رافق عبد الله محمد ذات ليلة إلى حفل عرس بمدينة الطائف، وكان من المتوقع أن يحصلا على مبلغ كبير نظير الغناء في ذلك الحفل، لكن العريس، الفظ، الغليظ، والمتجهم، لم يرق لمزاجية عبد الله محمد، فصعد إلى منصة الغناء، وتسلم المايكروفون، وراح ينكت غناء على العريس، ويحرف في كلمات الأغاني، فتحولت أغنية «طل القمر» إلى «طل..»، وتملك العريس الغضب، فقفز إلى المنصة، ودخل في عراك مع عبد الله محمد، شمل طلال مداح والعازفين، ليسقط المسرح الخشبي بالجميع، وكان نصيب طلال وعبد الله محمد الكثير من الكدمات والجروح.

وقص عليّ الفنان عبادي الجوهر بعض مداعباته للفنان طلال مداح، ويقول: «سافرنا معا في أحد أيام شهر رمضان، وكان علينا أن نتناول طعام الإفطار عند الغروب في جوف الطائرة، فأحضرت معي من البيت إفطاري الخاص، وسلمته للمضيفة لتحضره لي ساعة الإفطار، وحينما قامت المضيفة بتوزيع الوجبات أحضرت لطلال وجبته كباقي ركاب الطائرة، وقدمت لي وجبتي التي أحضرتها، فسألني طلال: لماذا يختلف طبقك عن أطباقنا؟.. فتظاهرت بعدم العلم، ولم يتردد طلال في الضغط على زر استدعاء المضيفة سائلا في غضب: «لماذا التمييز بين راكب وآخر؟!»، ولم يهدأ غضب طلال إلا بعد أن علم بالحقيقة».

ولطلال مداح قناعة خاصة بمعاكسة الجان له أحيانا، واستغل عبادي الجوهر هذه المعلومة، واستثمر انشغال طلال مداح بالعزف، وقام بتبديل ولاعة سجائر طلال الطويلة بأخرى مماثلة لها، لكنها أقصر من تلك، وحينما انتهى طلال من العزف نظر إلى الولاعة فوجدها قد قصرت كثيرا، فتأملها في صمت، وهو يبسمل ويحوقل، وحينما عاد للعزف قام عبادي باستبدال الولاعة مرة أخرى، مرجعا من جديد ولاعة طلال، وحينما تنبه طلال إلى ما يحدث للولاعة من تبدل وضع العود جانبا، وقام على الفور مطالبا بتغيير جناحه في الفندق لأنه يعج بالعفاريت!.

وفي حديقة منزل الصديق عبد الرحمن بريك بجدة اجتمعنا ذات ليلة قبل وفاته ببضع سنوات، وراح طلال يداعب أوتار عوده، في الوقت الذي تعالى فيه مواء هرة على سور الحديقة بصورة مزعجة، فوضع طلال العود جانبا وهو يعلق بظرفه المعهود: «علينا انتظار انتهاء الفنانة «...» من وصلتها الغنائية».

فطلال باختصار هو سيد الظرفاء في الوسط الفني.

أما الحديث عن أهمية طلال مداح كفنان، فإن الكلمات تعجز عن رسم مكانه ومكانته، فمنذ أن تسلم لواء الأغنية السعودية من طارق عبد الحكيم في بداية عقد الستينات، وهو يطبع ذائقة المستمع بطابعه، وجل الذين أتوا بعده لم يتمكنوا من الإفلات من تأثيره، حتى إن بعضهم استعار «راءه» ولثغته مثل الفنان حيدر فكري يرحمه الله..

يقولون: إن أم كلثوم أوصت بضرورة استثمار حنجرة طلال الذهبية، وإن عبد الوهاب ظل يكن إعجابا خاصا بطلال، ويردد دائما القول بأن لصوت طلال جماليات فطرية خاصة لا يستطيع أن يكتسبها الآخرون في كل معاهد الدنيا.. ولم يتردد موسيقيون كبار أمثال كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي من الاعتراف بأن صوت طلال حالة فريدة جدا لا تشبه إلا ذاتها..

أغنية «وردك يا زارع الورد» كانت شهادة ميلاد طلال فنيا، وجواز سفره إلى عالم الشهرة، فليس ثمة أغنية في تاريخ الغناء السعودي حققت لصاحبها من الشهرة ما حققته أغنية «وردك يا زارع الورد» لطلال، فلقد تغنى بها الصبيان في الدروب، ورقصت على أنغامها الصبايا في الأعراس، وسافر على جناحها طلال إلى كل القلوب.

والمتأمل لقائمة أغنيات طلال مداح التي ضمها كتاب الزميل الصحافي علي فقندش «هم وأنا»، يمكن أن يلحظ بوضوح دور الثنائي الفني الذي شكله طلال مع الشاعر لطفي زيني، وكان من نتاجه الكثير من الروائع، مثل «اليوم يمكن تقولي»، «يا زمن صبرك شوية»، «يا قمر تسلم لي عينك»، «يا مسافر ع الرياض»، و«أمشي معاك للآخر» وغيرها.. ولطلال مداح تجارب ناجحة جدا مع الثنائي الشهير الملحن فوزي محسون والشاعرة ثريا قابل، فلقد غنى من كلمات ثريا وألحان فوزي «اديني عهد الهوى»، «من بعد مزح ولعب»، و«يا من بقلبي غلاه».. كما حظي الملحن الموهوب سراج عمر باهتمام خاص من قِبل طلال مداح فغنى من ألحانه «مقادير»، «أغراب»، «الله يرد خطاك»، «الموعد الثاني»، «لا تقول»، و«ما تقول لنا صاحب» وغيرها من الأعمال البارزة.. وله من ألحان الفنان الكبير الراحل عبد الله محمد عدد من الأغنيات مثل «انتظاري طال»، «ثلاث ليالي»، «سويعات الأصيل»، «من عيوني»، و«يا قمر تسلم لي عينك» وغيرها..

وطلال مداح كما يصفه مجايله الفنان محمد عبده «أكثر الأصوات الغنائية في العالم العربي نقاء». فعبر صوته تتراقص الكلمات، وتتأنق، وتتألق، وتتبختر في طريقها إلى مشاعر الناس ووجدانهم، ولم يزل طلال رغم رحيله الحزين يسكن دواخل المحبين، ولم يزل صوته مرسال الحب وآهات المتعبين.

آخر مرة شاهدت فيها طلال مداح كانت في مكتبي في مجلة «إقرأ».. يومها تحدث طلال عن مشواره الطويل في شارع الفن، وعن القمة التي لا تهبط، لكنها تفسح بجوارها مكانا للآخرين.. وما زلت اذكر عبارته الأخيرة: ـ «لقد تعبت.. وآن لي أن أستريح».

ولم يظن أحد منا حينها بأنه يلوح بالرحيل.