«جنينة الأسماك».. عندما يصبح الخوف مرض العصر

حالة خاصة ومختلفة في سينما يسري نصر الله

هند صبري في «جنينة الأسماك»
TT

بالنظر إلى أفلام يسري نصر الله نجد أنها أفلام ذات طبيعة خاصة من أولها «سرقات صيفية»، التي تتسم بلغة سينمائية تأسست على المدرسة الشاهينية، مع رؤية يسري المتفردة إلى ذاته وإلى المواضيع التي يختارها في بقية أفلامه. طابع الذاتية ظل موجوداً لاحقاً في أفلامه «مرسيدس» و«المدينة»، ثم تخلى عنها واتجه إلى طابع ورؤية أكبر تجاه العالم في «صبيان وبنات» و«باب الشمس» بجزءيه. وخلال مسيرة أفلامه الستة أثبت مدى تميزه لاكتشاف ما يدور في محيط مصر والعالم. وربما يكون الفيلم الوحيد الذي أصابه بعض التشوش في أفكاره، نظراً لتعدد المستويات التي أراد الخوض فيها هو فيلم «مرسيدس»، غير ذلك فهو فعلاً أثبت أنه واحد من أفضل مخرجي السينما المصرية عبر تاريخها الطويل، لذلك فاستقبال فيلمه الجديد «جنينة الأسماك» في مهرجان برلين بكل هذا البرود والتجاهل أثار دهشة الكثيرين، خاصة أن فيلمه «باب الشمس» حقق نجاحاً عالمياً ليصل إلى اختياره كواحد من أفضل عشرة أفلام في العالم من قبل مجلة «التايم» الأميركية. إذن ما سر إخفاق فيلمه الجديد عالمياً، ثم في مصر خاصة مع السخط الذي لاقاه في عرضه الخاص؟

في «جنينة الأسماك» يعود يسري مرة أخرى إلى إحدى الطبقات العليا في شريحة المجتمع المصري، طبقة قاطني حي الزمالك ليقع اختياره على اثنين منهم، الأول الدكتور يوسف «عمرو واكد» طبيب تخدير يعيش داخل سيارته رافضاً العيش داخل شقته المطلة على النيل ويعمل نهاراً في مستشفى، حيث يرعى والده الذي يحتضر في أيامه الأخيرة، بالإضافة إلى عمله في عيادة ليلية تختص بعمليات الإجهاض والترقيع، وهو على علاقة غير مستقرة بصديقته مروة «درة»، ويجد متعته الأساسية في الاستماع إلى المرضى أثناء هذيانهم بسبب المخدر. وهناك المذيعة ليلى «هند صبري»، التي يختص برنامجها «أسرار الليل» بالاستماع إلى مشاكل وأسرار المتصلين، في محاولة منها أن تساعدهم على تجاوز أزماتهم، وهي تعيش في منزل مع والدتها وأخيها وليست على ارتباط عاطفي واضح مع أحد، غير أن لها علاقة خاصة مع رجل كبير ذي نفوذ واسع. تتوازى هذه الأحداث مع أزمة إنفلونزا الطيور ومظاهرات حركة «كفاية» التي تعبر عن الأزمة السياسية والوضع المتردي بشكل عام في مصر.

أحد الأسباب التي أدت إلى إخفاق الفيلم في جذب الجمهور تبدأ بالطريقة التي اختارها المخرج للتعبير عما يرصده الفيلم، وهي حالة الخوف من كل شيء بدءاً من الطيور المسالمة وحتى الفوبيا العالمية من حرب نووية قادمة قد تبيد العالم عن بكرة أبيه. المشكلة تبدأ مع المدخل المباشر منذ لحظات الفيلم الأولى، عندما تستقبل ليلى اتصالاً من شخص ما يعبر عن خوفه من الطيور ومن الإخوان المسلمين، وحتى أميركا واسرائيل. هذه الطريقة المباشرة جداً هيأت لتتابع معين من الأحداث ذي نمط وطبيعة خاصة، ولكنها خالفت ذلك التوقع في الاتجاه إلى مظاهر الخوف التي بدأ بها الفيلم، إلى الغوص داخل تفاصيل حياة شخصيات العمل، خاصة أن حالة الرصد تلك لم تنتهج النقد بقدر ما انتهجت العرض السطحي لما يدور، خاصة في حالة الطيور ومظاهرات «كفاية»، لأن كل ذلك لم يكن له أي تأثير على حياة الأفراد، خاصة في المشهد الذي يمر فيه يوسف بالسيارة من أمام مظاهرة لحركة كفاية مقامة أسفل أحد الجسور، وحتى لو كان المراد بالفعل إظهار أن هؤلاء الأشخاص منشغلون عما يدور حولهم. لماذا وجه الفيلم النقد الوحيد إلى الإخوان المسلمين، حيث يظهر احد ممرات مبنى الإذاعة والتلفزيون ممتلئاً بالمصلين، وكأننا في ساحة مسجد، إضافة إلى الرقيبة التي تستأذنها ليلى في اذاعة حالة مريضة بالإيدز، وحتى صاحبة الشقة مارجريت التي عبرت عن خوفها من احد الإخوان، والتي تخشى من أنها قد تضطر معه للبس الحجاب.

على الرغم من أن فكرة الخوف رمزياً من خلال التلصص على الآخرين مع عدم قدرة الجميع على التواصل المباشر تمت معالجتها بشكل أفضل في السيناريو من خلال هواية يوسف في التنصت إلى مرضاه وامتدت إلى التلصص على الأحبة في جنينة الأسماك، وهواية صديقه في اشباع رغباته عن طريق الحديث إلى النساء عبر الهاتف. وتتوج الفكرة في عمل ليلى كمذيعة في برنامج عن الأسرار، التي تنتقدها أمها «عندكو إسهال كلام.. مفيش أي تحفظ.. جيل أبيح»، يتابع السيناريو فكرة الخوف من الآخر والاختباء ايضاً بطبيعة عمل يوسف الليلي في مكان مشبوه لا يرتاده سوى الزانيات، وشبح الخوف الذي يفزع أحد المتصلين من علاقته بزوجته بسبب إصابته بالإيدز، إضافة إلى أهم مشاهد الفيلم عندما يجد يوسف نفسه محاطا بعدد متجمهر من الناس يتلصص عليه وهو نائم في سيارته وكأنه سمكة كبيرة داخل حوض سمك.

السبب الأهم في الإخفاق راجع لرغبة المخرج في خلق حالة سينمائية خاصة لفيلمه، حالة من الجمود التي تغطي على أجواء الفيلم بأكمله، وتتسبب في ايقاع شديد الرتابة والبطء، ينطوي ذلك على حركة الكاميرا التي لا تتحرك كثيراً، وعندما تتحرك فهي تشرد عن الموضوع، كما ينطوي على أداء الممثلين البارد بدون سبب واضح في بادئ الأمر، ويعزز ذلك المشاهد بالإضاءة الخافتة عموماً أو الغارقة في الظلمة في بعض الأحيان. وحتى عندما يصور فيلم جزئية «الأميرة والعصفور» بطريقة الأفلام القديمة فهو لا يلجأ إلى الحركة السريعة التي تميز أفلام تلك الفترة، كما قدمها من قبل في مشهد الباشا في أول أفلامه «سرقات صيفية»، ناهيك من مشاهد الممثلين الذين يتحدثون إلى الكاميرا، فهي مشاهد طويلة جداً تحوي منولوجات بالغة الطول مع أداء في وضعية ثابتة في معظم الحالات، هذه الحالة السينمائية مهما كانت معبرة عن أفكار ورؤية نصر الله إلى العالم اليوم، فهي أدت إلى انصراف المشاهد العربي غير المعتاد على هذه النوعية من اللغة السينمائية، وقبلها المشاهد الغربي، الذي لا يجد ما يجذبه في فيلم غارق في المحلية والسوداوية وشديد البطء.

[email protected]