الملحن السعودي سامي إحسان.. صانع النجوم ومحطة إطلاق الأصوات الجديدة

لم يكن أمامه إلا أن يكون فنانا ولو رغم أنفه > العريس الذي هرب من حفل زفافه ليلعب في الأزقة > حكاية العود الذي تكسر على الرؤوس

سامي إحسان
TT

«كل الحناجر الغنائية مرت من هنا».. وحده يمكن أن يقولها ولا يبالي، فمن في قافلة الحداة لم يتغن بألحانه؟! وكل الحناجر عبرت على جسرها.. طلال مداح، محمد عبده، عبد المجيد عبد الله، عبادي الجوهر، أنغام، سمية القيصر، على عبد الكريم، غادة رجب، سعاد محمد، أصالة، نادية مصطفى، كارم محمود، عبد الله الرويشد، عماد عبد الحليم، سميرة سعيد، رجاء بلمليح، عبد الله رشاد، عبد الكريم عبد القادر، ابتسام لطفي، وردة الجزائرية، عفاف راضي، محمد عمر، ويحيى لبان.. كل هؤلاء وغيرهم غنوا من ألحانه، حتى الملحنون أمثال غازي علي، وعمر كدرس وجدت ألحانه طريقها إلى حناجرهم، فغنى من ألحانه غازي علي «يا عزوتي»، وغني الكدرس «الحب الكبير».. إنه «الجوكر»، و«صانع النجوم»، و«محطة إطلاق الأصوات الغنائية»، الملحن السعودي سامي إحسان..

علاقتي بسامي إحسان علاقة عمرها العمر كله، فلقد تجاورت بيوتنا في حي «الهنداوية»، ونحن لم نزل دون سن المدرسة، وفي دروب ذلك الحي الشعبي نبتت شقاوات طفولتنا، وعفرتة صبانا، وأحلام شبابنا، وكان كل ما في ذلك الحي يحرض على التحدي، فلقد أنتج ذلك الحي البسيط عددا كبيرا من الفنانين، والكتاب، والرياضيين، والأطباء، وأساتذة الجامعات.. ولم يكن أمام سامي في ذلك الحي إلا أن يكون فنانا، فوالده المرحوم عبد الله إحسان عاشق للفن وأهله في زمن كان الفن فيه في نظر البعض خادشا للوقار، فبيته في نهايات الأسبوع يتحول إلى ملتقى للكثير من الأصوات الغنائية السائدة آنذاك أمثال: محمود حلواني، وعمر باعشن، ورياض علي، وغيرهم، وفي هذه الأجواء الفنية الثرية نشأ سامي وترعرع على أنغام الموسيقى وعذوبة الغناء، فكان لا بد أن يكون فنانا، ولو رغم أنفه..

في شخصية سامي إحسان نزعة مغامرة مبكرة، فلن أنسى حينما قمنا أطفالا باستئجار دراجة نارية بكل ما حصلنا عليه من نقود «العيدية»، ولم يكن في خبرة كلينا قيادة مثل هذه الدراجة، فطلبنا من المؤجر أن يرينا كيفية تشغيلها دون أن نسأله عن كيفية إيقافها، ورحنا نمخر الدروب بسرعة جنونية، محدثين أكبر قدر من الذعر بين المارة، ولم تنته رحلة المغامرة هذه إلا باحتراق الدراجة النارية، مخلفة حرقا لم تزل آثاره في ساقي رغم مرور عشرات الأعوام..

في نهاية عقد الخمسينات اشتريت بكل مدخراتي الطفولية عودا، وتحول سامي الذي كان قد بدأ العزف إلى معلم لي وللمرحوم الفنان العازف والملحن والشاعر على هباش، وتعلم «علي» سريعا بينما ظلت عجلاتي شهورا مغروسة في لحن «يا أهل الهوى ما ترحموني»، حتى اكتشف والدي العود ليكسره على رؤوسنا منهيا بذلك طموحاتي الفنية.. وقد طبع أسلوب الحياة في ذلك الحي الشعبي أثره في سيكولوجية الفنان سامي إحسان، فهو مندفع إلى حد التهور، صريح إلى درجة الإثارة، محب إلى درجة العشق، متقلب المزاج كطقس استوائي، شديد الحساسية كبركان.. حينما تزوج وهو في الثانية عشرة من العمر ترك العروس وحفل الزفاف، وجاء ليلعب معنا، وحينما افتقد المدعوون العريس كان عليهم أن يفتشوا عنه في أزقة الحي ودروبه ليجدوا ثوب العرس الأبيض قد تحول إلى لون رمادي..

كان يحمل عوده في نهاية الأسبوع ليطوف على أعراس الحي، يقتحم منصات الغناء في شجاعة وثقة ليعزف أو يغني، حتى كون شهرة واسعة غار منها الكثير من أقرانه، ولم يكتف بالعود فأضاف إليه آلة الكمان، حتى غدا من أبرز عازفيها..

في سن مبكرة كون فرقة النجوم مع سراج عمر، وطاهر حسين، ومحمد العماري، وعلى هباش، وآخرين، وتوشك أن تكون هذه الفرقة الوحيدة التي كانت تصاحب الفنانين في الأفراح والليالي الملاح، وانطلق بعد ذلك بموهبته إلى فرقة الإذاعة الموسيقية حتى غدا رئيسها وقائدها لسنوات طويلة..

هو دؤوب كنحلة في اكتشاف المواهب، وسجله من هذه الاكتشافات يضم أسماء كبيرة أمثال: سمية القيصر، وعبد المجيد عبد الله، وعلي عبد الكريم، ومحمد عمر، وعبد الله رشاد، وعباس إبراهيم، وغيرهم.. ولن أنسى ما قالته لي الفنانة المغربية رجاء بلمليح، وهي تصف سامي إحسان بأنه آلة تنقيب جبارة عن الكنوز، لكثرة ما اكتشف من نجوم.. والحق أنه كذلك، فجل البدايات الفنية ترتبط بسامي إحسان..

له مع الفنان محمد عبده نجاحات فنية بارزة، فمن منا لا يتذكر رائعتي محمد عبده اغنيتي: «إنت محبوبي» و«مالي ومال الناس»، وهما من ألحان سامي إحسان، وكلمات إبراهيم خفاجي.. وله مع طلال مداح الكثير من الروائع مثل: «مرت» و«ما على الدنيا عتب»، وله مع عبد المجيد عبد الله أعمال مميزة مثل: «سيد أهلي» و«واقف على بابك غريب».

كتبت ذات مرة نثرا فنيا هذا مطلعه:

«قراصنة الليل يسرقون نصف القمر، يخبئون الضياء في قوافل الغيوم..

والمدينة تنام، تنام ملء الجفون..

ومصابيح الطرقات، فتات القمر، تغسل ثياب المطر من عتمة الأسفار..

والمدينة تنام».

فتلقيت اتصالا من سامي إحسان أسمعني فيه تلك الكلمات النثرية بعد أن قام بتلحينها، جاعلا من هذه الكلمات البسيطة عملا فنيا لم أصدق أنني كاتبه.. فسامي كتلة ألحان تتحرك على الأرض، وهو قادر على تحويل كل شيء إلى موسيقى، حتى الكلام العادي..

حدثني قبل سنوات عن مشروع تلحين بعض القصائد «الحداثية» للشعراء عبد الله الصيخان، ومحمد الثبيتي، ومحمد جبر الحربي، وغيرهم، وجرت بينه وبين الشاعر الصيخان لقاءات مكثفة في جدة، لكن المشروع لم ير النور حتى هذه اللحظة، فسامي يعيش هذه الأيام حالة صمت وابتعاد عن الساحة، وإن كان المقربون منه يؤكدون أن عقب كل حالة عزلة ظهور فنان جديد تزفه ألحان سامي إلى عالم الشهرة..

حواراته الصحافية ساخنة، ساخرة، مثيرة، فالذي في نفسه على لسانه كما يقولون، ولم يسلم من نيران صراحته أحد، وإن كان أقساها من نصيب عبد المجيد عبد الله والفنانة أحلام، فوصف الأول ذات يوم بالجحود، ونعت الثانية ذات لقاء بأنها مجرد «طقاقة»! ويمكن القول إن لسامي إحسان أدوارا كثيرة وبارزة في حركة الأغنية السعودية الحديثة، أهمها اكتشافاته الفنية، ففي غياب المعاهد الموسيقية لعب بخبرته الدور الأبرز في تثقيف الشباب موسيقيا، وتحول إلى مدرسة فنية أخرجت نخبة من أبرز المطربين، وله إسهاماته البارزة في تأسيس الفرق الموسيقية، كما كان له دوره الرئيسي في انتشار الأغنية السعودية عبر الكثير من الأصوات الغنائية العربية أمثال: وردة الجزائرية، عفاف راضي، عبد الله الرويشد، كارم محمود، عماد عبد الحليم، رجاء بلمليح، علي عبد الستار، سميرة سعيد، وغيرهم. ويقدر الزميل على فقندش أعمال سامي إحسان الموسيقية بحوالي 600 عمل فني، وهذا الكم الإبداعي والنوعي يضع سامي إحسان في موقع بارز جدا وسط كوكبة الفنانين السعوديين المعاصرين. وهذه السطور تحية واجبة لفنان كبير أعطى الفن حياته، ولم يحصل من الفن إلا على فيض شهرة وقبض ريح.