جمال سليمان.. طاقة واعية لم تستوعبها الشاشة العربية

جمال سليمان
TT

مرة كنت في الطائرة أتصفح صحيفة أردنية، وكان فيها حديث مطول للمثل جمال سليمان، وفي سؤال عن بداياته أشار اليّ عندما شارك في دور (دوف ـ خلدون) في فيلم عائد إلى حيفا، الذي أخرجته عن رواية غسان كنفاني.

في ذلك الوقت لم يكن معي في قسم السينما سوى عشرين ألف دولار، وكنت مصرا على أن أخرج فيلما روائيا في ظروف إنتاجية وأمنية صعبة في لبنان. وكنت طلبت من الممثلة الألمانية كرستينا شورن أن تلعب دور اليهودية البولونية وأن تمثل معنا في لبنان بدون أجور. جمعنا أنفسنا وكنت أخاف ألا أتمكن من توفير إقامة وطعام الممثلين، ولو لم يصلني دعم من أحد محبي السينما والقضية الفلسطينية لما تمكنت من إنجاز الفيلم. كنا نؤدي المشاهد الخارجية في طرابلس لبنان وكان مقررا تصوير المشاهد الداخلية في دمشق في أستوديو صغير، وصممت المشاهد على أساس حركة الكاميرا محمولة على رافعة تتحرك مع حركة وصراع الممثلين. عندما قمنا بتجريب الرافعة وجدناها لا تصلح للعمل وتخرج أصواتا تعيق تسجيل الصوت المباشر وعملية الصراع، ما جعل الأمر عسيرا أن أكون مضطرا لتغيير الديكوباج واستعمال المشاهد المتقطعة. ولم يكن بمقدوري ماليا أن أستأجر رافعة من خارج الأستوديو المستأجر. كنت أريد أن تكون عملية مونتاج داخل الكادر بأربع دقائق لكل مشهد، وهو زمن بكرة الفيلم في الكاميرا 35 مليمترا. وكان أحد الممثلين هو الممثل الشاب جمال سليمان، كان تأثير التقطيع على أدائه مثلما كان على أداء بقية الممثلين ليس سهلا، حيث يضعف قدرة الممثل على الاستمرارية في الأداء بنفس شحنة تلبس الشخصية وتقمصها.

وفي كل مرة تأتيني رسالة من صديقة أو صديق يكونان بالمصادفة يشاهدان لقاء مع الممثل جمال سليمان، الذي صار نجم الشاشة العربية بجدارة وهو يشير إلى بداياته معي ويذكرني بما هو جميل. أكيد انني أشعر بالامتنان للوفاء، ولكن شعوري دائما أجمل عندما أشاهد هذا الفنان المبدع وهو يتألق، بل إنني أشعر بالامتنان لجمال أدائه وقوة تألقه.

الأعمال التي قدمها جمال سليمان كثيرة وشاهدت الكثير منها، وكان دائما متألقا في أدواره. وإذا ما استثنيت ظروف إنتاج فيلم «عائد إلى حيفا» ونظرت إلى جمال سليمان كمخرج أظن انني قادر على معرفة قدرة كل ممثل وحجم أدائه أشعر بأن الشاشة العربية لم تستوعب قدرة جمال سليمان والطاقة الكامنة في ذاته. هي مشكلة الممثل العربي في ظروف الإنتاج العربية وخبرة الكتابة الدرامية وبناء الشخصية وبناء الجملة الحوارية المعبرة فعلا عن طبيعة الشخصية وأحاسيسها، ما يمكن الممثل على منح الطاقة الإبداعية المخزونة في ذاته.

جمال سليمان ممثل عربي الجنسية والولادة والنشوء وهو يؤدي أعلى ما يستطيع ويتألق وله حضور جميل على الشاشة. وإن المتلقي يشعر بوجوده حتى إن كان يقف مجرد وقفة بين عشرات الممثلين، لكن مفردات لغة الشاشة العربية تلفزيونيا وسينمائيا لا تشكل بمجموعها لغة الدراما السينمائية والتلفزيونية الصحيحة، فمفردة لغة الأداء لدى ممثل قد تحطمها مفردة الإضاءة أو مفردة حركة الكاميرا.. وكثيرا ما شاهدت الممثل جمال سليمان في لحظة تألق في الأداء تحطمها حركة استعراضية سريعة للكاميرا نحو تكوين لا علاقة له بالمشهد، أو هو يؤدي دورا متألقا فيه وتشعر بأنه بذل جهدا في معايشة الشخصية وتقمصها، ولكن مكونات المشهد بإكسسواراته وإضاءاته وفي زاوية الكاميرا أو حجم اللقطة، كلها لا تساعد في عملية تركيز المتلقي على ذلك الأداء الجميل، ثم إن عملية الإشباع في الأداء والجمل الصامتة بين مقاطع الحوار أجدها في الدراما العربية تالفة ولا تبعث على الشهية في المتابعة، وهذا ما يحرم ممثلا مثل جمال سليمان من أن يتألق متجاوزا حجم وعي التلقي العربي أو مرتقيا فيه إلى قمة جمالية المتعة العقلية والحسية في المشاهدة، لأن التألق للممثل الواحد قد يضيع إذا لم يجاذبه تألق مماثل.

جمال سليمان فرض نفسه بقدرته التمثيلية وعشقه للدراما واستيعابه ووعيه لخفايا فن الدراما، فهو ليس ممثلا موهوبا، فموهوبو التمثيل غير قليلين ولكن مستوى وعي وثقافة جمال سليمان منحت موهبته ديناميكية التنوع وخلصته من النمطية والتكرار بشكل كامل فارتقى (وفي حدود ظروف الإنتاج العربية) إلى مديات متميزة ومتألقة. ولكن حدود ظروف الإنتاج العربية سواء في فن الكتابة أو في فن الإنتاج أو في فن التقنية والفن ومفردات القيمة الجمالية، التي بدونها يصبح العمل الدرامي متفسخا ومليئا بالثغرات. حدود ظروف الإنتاج هذه هي التي أبقت الكثير من طاقة جمال سليمان كممثل لا تزال على رفوف المخزن السري للمبدع، فهي ليست مفرغة بعد.

ليس من مفر ولا من حل سوى عندما تتاح لجمال سليمان يوما فرصة خارج شروط الإنتاج العربية، وقبل أن تتعب الطاقة ذاتها وتركن للخمول البيولوجي، لاسيما إذا ما كثرت رغبة العمل من دون حساب وقلت رغبة التمرينات الرياضية، أو إذا ما تجاوزت رغبة الأكل حدودها وطغت رغبة السهرات على رغبة التأمل، ما يزيد الوزن ويحول دون رشاقة الحركة وجمال الالتفاتة وانسيابية الجملة في تقطيعها منذ بدايتها وحتى نهايتها من دون تعب أو لهاث.

الممثل العربي والفنان العربي والمثقف العربي حتى يصبح في المكان الجدير به ونسبيا فإنه يعاني ويكافح ويتعب كثيرا، وقد يقتله الحظ أحيانا أو يفتح له باب المصادفة حينا. فكثير من الممثلين الذين لم يظهروا حتى في فرصة عمل درامي واحد يملكون طاقات مبهرة ولكن الظرف والحظ وماسكي مفاتيح الفرص والحياة، أنذال وحساد ومرتشون فكثيرا ما واجهوا مبدعين بالقول (انقلع ما بدي شوف وجهك بنوب) فإذا ما تألق المبدع بقيت هذه الجملة محفورة في وجدانه تطارده وتنغص عليه تأملاته وتدعوه للقرف لإزاحتها من ذاكرته، وإذا ما حرم بسببها ولم يتمكن من اقتلاع الحواجز عاش نكدا متعبا في حياته. جمال سليمان تكمن قدرته في الطموح والتجاوز، فهو إلى جانب موهبته، التي لم تستوعبها الشاشة العربية، ولا أظن أن الشاشة العربية بظروفها المعروفة قادرة على استيعابها، فإن طموحه المشروع والمتفاعل جدلا مع موهبته أعطياه قدرة فرض وجوده رغم الكثير من محاولات الإعاقة على ما أظن وأقرأ أو أسمع في بعض الأحايين. هذه هي لعبة الدراما في المنطقة العربية وهذه هي لعبة السياسة في هذه المنطقة.

سجل جمال سليمان ملفات مشرقة في مسار الدراما العربية وتميز فيها فارتقى بموهبته ولم يتمكن هو من الارتقاء بها لأنها محكومة بالكتابة غير السليمة وبشروط الكتابة التي تحد منها حرية التعبير وبشروط الإنتاج وطرائق الدفع في منطقة ناطقة باللغة العربية وتنتمي إلى الحلم العربي (مجازا) عالم ينجز مسلسلات تأريخية كما يشتهى للتأريخ أن يكون وليس كما هو كائن. فملوكنا في التأريخ وسلاطيننا هم حكام عادلون نبويون والمختلفون معهم أشرار وقتلة، فيما ملوك الغرب وقادته نراهم في خطاياهم ومؤامراتهم وخياناتهم الزوجية وأعدائهم، قد يكونون محقين في مواقفهم ولذا فإن تلك الشخوص في الدراما تبعث الشهية في الأداء فيما شخصياتنا التأريخية تكتب لها المقولات المنمقة والحكم والأحكام العادلة حتى تتحول إلى شعارات، والمختلفون معها شعارات طيبة وأخرى شريرة، وعلى جمال سليمان أن يلعب ما يعجبه من هذه الشخصيات المرسومة بشكل غير حقيقي. ويعمل جمال سليمان المستحيل من أجل أن يحرر ملفا من ملفات الطاقة الخزينة والجميلة في ذاته.. وكما جاء في أسطورة سيزيف القول «آه يا روحي العظيمة لا تطمحي إلى الخلود، ولكن استنفدي حدود الممكن».

[email protected]