عمر الحريري.. «الحاضر الغائب»

أراد إعادة الزمن الجميل فبقي بمفرده

TT

بينما غادر كل الفنانين قاعة المسرح الكبير بدار الأوبرا، بعد انتهاء الجزء الاول من حفل افتتاح المهرجان القومي للسينما المصرية يوم الثلاثاء الماضي، كان الفنان عمر الحريري هو الوحيد الذي بقي داخل القاعة انتظاراً لعرض فيلم نادر هو «حياة فنان»، بقاء الحريري كان مبرراً، فقد شارك في هذا الفيلم، الذي لم ير النور منذ تصويره عام 1954 وحتى العثور عليه في مخازن وزارة الثقافة أخيراً، وترميمه وتجهيزه ليرى الجمهور الاجزاء الصالحة منه بعد مرور 54 عاماً على إنتاجه، غير أن الحريري لم يمكث فقط من أجل الفيلم، بل من أجل استعادة زمن جميل يعد هو مع حفنة قليلة من أبناء جيله الشهود عليه الان، بعدما تخطوا جميعاً الثمانين من العمر، فمع الحريري، كمال الشناوي، ومحمد الدفراوي، وزهرة العلا، ومريم فخر الدين، وقبلهم فاتن حمامة، هؤلاء هم فقط الباقون من الجيل الذي بدأ مشواره الفني في الأربعينات، بل إن الحريري ينتمي لأول دفعة تخرجت من معهد التمثيل عام 1947، ورغم أنه لم يحصل على البطولة المطلقة سوى مرة واحدة من خلال فيلم «أغلى من عينيه» أمام سميرة أحمد، لكن الحريري كان وما زال حتى الان متمسكاً بالفن لا بشباك التذاكر، ويعتبر نفسه شاهدا على عصر كامل من الفن الجميل، منذ كان طفلا يحب مشاهدة المسرحيات والفرق الموسيقية والاستعراضية في شارع عماد الدين، حتى حصل على إذن أسرته لدراسة التمثيل، من دون المعارضة التي كانت عادة في تلك الأيام، عندما كان التمثيل «عيب وقلة قيمة»، لكن الحريري تخطى المرحلة بفضل تفهم عائلته لأهمية الفن، وكان من بين الدفعة الأولى التي درست أصول التمثيل، الذي لم يكن أحد يتخيل أنه سيتحول إلى علم، ومع الحريري دخل فريد شوقي، ونعيمة وصفي، وشكري سرحان وسعيد أبو بكر، وزكريا سليمان، وحمدي غيث، وبالتدريج بدأ الشاب اليافع يزداد خبرة يوماً بعد آخر، ليشهد على تحولات الفن المصري منذ نهاية الأربعينات وحتى الألفية الثالثة، ليس هذا فقط بل شارك الحريري الذي احتفل قبل شهرين بعيد ميلاده الثاني والثمانين، في العديد من الأنشطة الفنية بشكل تخطى مهمته كممثل يؤدي الأدوار أمام الكاميرا، حيث كان من مؤسسي فرقة التلفزيون، ومن أعضاء فرقة الريحاني، وعمل بالمسرح القومي منذ تخرجه وحتى عام 1960، قبل أن يسافر إلى ليبيا ويقود النهضة المسرحية في مدينة بنغازي، من عام 1967 إلى عام 1974، قبل أن يعود للقاهرة ليبدأ مرحلة جديدة من نشاطه الفني، فمشوار الحريري ينقسم إلى مرحلتين أساسيتين فصلت بينهما رحلة بنغازي، التي تزامنت مع الحرب بين مصر وإسرائيل، حيث فضل عدم الانجراف وراء الأفلام السياحية التي تصور خارج البلاد، وقرر أن يمارس هوايته الاولى، وهي حب المسرح، مع الشباب الليبي، وقبل ذلك ظل الحريري بطلاً ثانياً، من دون أن يشعره ذلك بأي «عقدة نقص»، وقف بجوار نجوم جيله وكان وجوده في معظم الأفلام مؤثراً وفاعلاً، لكنه لم يسع كثيراً للسيطرة على العمل ككل، ولو كان فعل ذلك ربما كان خسر على الجبهتين، فمعايير النجومية ربما لم تكن تتلاءم معه، في الوقت نفسه الجري وراءها كان سيفقده العديد من الأدوار المؤثرة، والغريب أن تلك الأدوار تنوعت ما بين التراجيديا والتاريخية والكوميدية، وكلها أداها الحريري في عدد محدود من السنوات، لهذا لا تتعجب من ظهوره في دور الملك فيليب أغسطس في «الناصر صلاح الدين» للمخرج يوسف شاهين، ثم الشاب الساذج في الحب في فيلم «سكر هانم» مع كمال الشناوي وسامية جمال، والفتى المستلم لتخاريف شقيقه في «أم رتيبة» وصاحب العاهة في «أغلى من عينيه».

غير أن عودة الحريري في السبعينات تزامنت مع وصول الشعر الأبيض للرأس المليء بالأفكار والأدوار، فاختار على الفور الانحياز للزمن، ليبدأ شهادته على عصر جديد، فدخل في ثنائي مع عادل إمام، على مستوى المسرح «الواد سيد الشغال» و«شاهد مشفش حاجة»، وفي التلفزيون «احلام الفتى الطائر»، حيث أدى شخصية الكاتب الذي خانته زوجته ببراعة، أما في السينما، فتنوعت أدواره، وكان أبرزها «المذنبون» مع سهير رمزي، و«أهل القمة» مع عزت العلايلي ونور الشريف في دور رجل الأعمال الفاسد المتظاهر بالتقوى، وفيلم «انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط» مع عادل إمام، ومع احمد زكي قدم دوراً شرفياً لا ينسى في «معالي الوزير»، فكان رئيس الوزراء الذي اضطر لقبول أحمد زكي في الوزارة بسبب تشابه اسمه مع الوزير المرشح للمهمة.

في حياته الشخصية حصل على لقب «أبو البنات» مثل فريد شوقي، غير أنه لم يخف سعادته بأن ابنته الأخيرة جاءت وعمره تخطى الستين عاماً، فقد كانت الابنة الصغيرة بمثابة «اختصار» لفلسفة عمر الحريري، وهي أن يعيش حياته من البداية للنهاية حاملاً الأمل في الغد، والقيام بما يحب، حتى لا يشعر أبداً بمرور سنوات العمر، رغم ذلك خذل الكثيرون عمر الحريري في الفترة الاخيرة، لدرجة أنه اشتكى رسمياً من عدم اسناد أي أدوار له في التلفزيون، فهناك من يعتبرونه غائباً بينما هو ليس كذلك، وحتى يستفيد أبناء العصر الحالي من هذا «الشاهد على العصر»، فإنه سيكتفي على ما يبدو بمشاهدة الأفلام التي قدمها قبل نصف قرن ليتذكر كيف كان زملاؤه يقفون بحب أمام الكاميرا يفكرون في الجمهور ولا شيء آخر.