أعمال إنسانية واجتماعية بمستويات فنية متفاوتة.. والعراق يتألق

روح فتية وتنظيم عالي المستوى في مهرجان الخليج السينمائي الأول

لقطة من فيلم «أحلام» («الشرق الاوسط»)
TT

اختتمت ليلة الجمعة الفائتة فعاليات مهرجان الخليج السينمائي الأول، الذي تقيمه هيئة دبي للثقافة والفنون، ويرأسه رئيس مهرجان دبي السينمائي الدولي عبد الحميد جمعة، ويديره أيضا مدير مهرجان دبي مسعود أمر الله. وقد ظهر المهرجان بروح فتية وتنظيم عالي المستوى، بعيدا في ذات الوقت عن صخب شقيقه الأكبر مهرجان دبي السينمائي. ساد المهرجان طابع حميمي دافئ عززه التقارب الاجتماعي والثقافي والسينمائي والعمري بين شريحة واسعة من المشاركين. وعلى الرغم من أن المهرجان لم يكن، تاريخيا، الأول بين المسابقات السينمائية الخليجية الفتية، إلا أن الرهان بأن يمثل هذا المهرجان نقلة نوعية من بين كل التجارب السابقة قد تحقق بالفعل. فالتقسيم المتوازن للأفلام المعروضة داخل المسابقة ومعقولية عددها وجدولة عرضها أكثر من مرة في أوقات مختلفة أعطى فرصة لحضور مقبول لكافة العروض، كما أعطى فسحة جيدة لمشاهدة بقية الأفلام المعروضة خارج المسابقة وعلى هامشها، التي تنوعت ما بين أفلام قصيرة وطويلة، أوروبية وآسيوية وعربية. وجاء وجود مقر المهرجان بجانب «مول الإمارات»، الذي يعد احد اكبر أسواق المنطقة، حافزا لبعض المتسوقين والعامة من كافة الجنسيات لحضور بعض تلك العروض وإطلاعهم على أشكال سينمائية أخرى وتجارب سينمائية خليجية طموحة غير السينما العالمية التقليدية المعروضة في الصالات التجارية والمجاورة تماما لمقر المهرجان. ليس خافيا على أي متابع لمهرجان الخليج السينمائي في هذه الدورة المستوى الفني المتواضع للأفلام الخليجية المعروضة ضمن المسابقة وخارجها، فباستثناء عدد محدود من الأفلام الجيدة، عانت بقية الأعمال المعروضة من هشاشة واضحة وجلية، ابتداء من سطحية أفكار عدد كبير منها ومن ثم معالجتها معالجة رديئة ومشتتة، تنم عن رؤية ضحلة لأبسط الانفعالات النفسية التي ترافق شخصيات حكاياتها، ومن ثم الرداءة في جودة الصنعة الفنية والتقنية ذاتها. ونحن لا نقصد هنا الإمكانيات التقنية المتواضعة، فهذا الشيء متوقع في ظل غياب مؤسسات متخصصة تقوم بدعم الإنتاج السينمائي، وإنما أتحدث هنا عن تركيب الصورة ولغتها السينمائية بحد ذاتها، والخلط بين مستويات صورية، من دون وعي بأهمية كل مستوى ودلالته، والمراوحة بين استخدام اللقطات بكل أبعادها الغائرة في العمق والبالغة في السطحية بعبثية غير مبررة، هذا بالإضافة إلى الاستخدام الفج والمتكرر لتقنية التقريب «الزوم»، التي يفترض اللجوء لها في حالات محدودة تفرضها اللقطة السينمائية، عدا ذلك فإن المشاهد سيفقد وحدويته مع الصورة وسيلقى به دائما خارج إطار الصورة. إن مستوى الصورة السينمائية بصورة عامة لا يزال عند تلك النقطة التي توقف عندها قبل عدة سنوات. وهذا يندرج على إنتاج جميع دول الخليج، من دون أي استثناء. وعلى كل حال فإنه وللإنصاف أيضا من الناحية الأخرى، لا بد من الإشارة إلى أن أفلام المهرجان شهدت نقلة بارزة وجديرة بالاهتمام على مستوى النوعية التي تتمتع بها تلك الأفلام. فللمرة الأولى نشاهد كمية كبيرة من الأفلام التي تتعرض لموضوعات تسترعي اهتمام المشاهد وتحكي بعضا من همومه ومشكلاته. إنها المرة الأولى التي نشاهد فيها روح الشباب بكل جرأتها وثورتها تتمثل في أعمال فنية مثيرة للاهتمام. ففي مجتمع سينمائي لا يتجاوز متوسط أعمار صناعه العقد الثالث من العمر، استطاع الشاب الخليجي النزول عن محاولات التطبع بروح الحكمة وسبر أغوار النفس البشرية والنحت في أسطورة التاريخ والمجتمعات، لاسيما ان الكثير منهم يفتقد كثيرا الى تلك النظرة الغارقة في التأمل التي يفترض أن تبنيها تجربة معيشية طويلة وصراع مديد مع الزمن. وهذا هو سر النضج في الرؤية الذي كنا ننتظره منذ عدة سنوات. ولقد استرعت تلك الأفلام الجزئية انتباه المشاهدين، على الرغم من تواضع صورتها، فالموضوع الجيد مثير للاهتمام حتى ولو كان بسيطا أو متواضعا أو يعاني من مشاكل فنية وتركيبية كبيرة. وأنا أشير هنا الى بعض الأعمال الكويتية المتميزة، كما هي تجارب الشابين مقداد الكوت ومساعد خالد في أفلامهما، الأربعة المشاركة في المسابقة الرسمية «مفارقات» «مساعد في الشاشة: ثلاث لقطات ونصف» و «تعبان» و«إصرار». فعلى ما في أعمالهما من سرعة في التنفيذ واقتباسهما لكليشات معروفة وغلبة الصورة التلفزيونية، إلا أن أعمالهما كانت مفعمة بروح متمردة وساخرة على التقاليد بكافة أنواعها، التقاليد الاجتماعية والثقافية والطقوسية، وحتى تقاليد الصورة السينمائية ذاتها، مما ينبئ عن موهبة فريدة سيكون لها شأن في المستقبل القريب. ومن الكويت أيضا جاء فيلم «شرق» لمخرجه الأميركي اريك ساندوفال، الذي جاء بأنفاس كويتية خالصة وأداء متميز من كافة ممثلين رغم حداثة سنهم. أما الأعمال البحرينية فهي الأخرى شهدت تطورا ملحوظا عما كانت عليه في السنوات الفائتة، ولا شك في أن دخول أسماء لها باع طويل في السينما كثقافة وصنعة، مثل أمين صالح وحسن حداد كان له اثر واضح في ذلك التقدم. فمن فيلم «غياب» لمخرجه محمد بوعلي، الذي أتى بشاعرية عذبة وبسيطة وغير متكلف،، إلى فيلم «عشاء» لحسين الرفاعي، الذي استطاع أن يرتفع بالفيلم من قصة تقليدية إلى صراع نفسي، أشعلته قسوة صمت هائلة حكمت بها عائلة على ابنة لها كانت ضحية مجتمع فاسد. لقد كان لاستخدامه لصورة وإضاءة سطحية حادة وتلفزيونية الطابع، اثر بالغ في تأجيج ذلك الجفاف الشعوري المؤلم. وكان عن جدارة احد أفضل أفلام المشاركة، ولو انه خرج خالي الوفاض. على النقيض من ذلك جاءت الأفلام السعودية من دون المستوى المأمول، وظهرت أعمالها الأضعف بين الأعمال المشاركة من حيث تقنيات الصوت والصورة، باستثناء فيلم «مطر» لمخرجه عبد الله آل عياف، الذي تتقدم إمكانياته الفنية مع كل فيلم يقوم بإخراجه، والآخر هو الوثائقي «سعوديون في أمريكا» لمخرجه فهمي فرحات، الذي يحاول في فيلمه أن يساهم في تغيير بعض المفاهيم المغلوطة في نظر المجتمع الأميركي حول المجتمع السعودي، من خلال عائلة سعودية مقيمة في أميركا. أما فيلم «ما وراء الرمال» لمخرجته نور الدباغ وفي تجربتها الإخراجية الأولى، فهو يدور أيضا في ذات الموضوع إلا انه كان رسميا إلى حد أفقد الفيلم مصداقيته، كما انه لم يعبر بصور واضحة ومن خلال تقاطيعه وانتقالاته ولقاءاته عن رؤية واضحة تود مخرجته إرسالها للمشاهد.

أقدمت إدارة مهرجان الخليج في دورتها الأولى على خطوة إيجابية بإدراجها لدولة العراق، من بين الدول التي يمكن لها المشاركة في المسابقة، ففضلا عن التقارب الثقافي والاجتماعي والبيئي بينها وبين بقية دول الخليج، فالعراق له ارث سينمائي متقدم في صناعة السينما يفوق أي دولة خليجية أخرى، وهو ما يمثل إضافة بناءة للسينما الخليجية، حيث تمتزج فيه مع سينما أكثر نضجا واقرب ثقافة. وسواء داخل المسابقة أو خارجها فقد ظهرت السينما العراقية بصورة جميلة وناضجة، تعيش واقعها وتتعامل معه بحس عال ورؤية ثاقبة. ومن المثير للانتباه هو ذلك التنوع الموضوعي في الأفلام العراقية المشاركة، التي لم تكتف بمواضيع تم تكرارها حول العراق بعد سقوط صدام، والصراعات السياسية المختلفة، وهو حق مشروع في بلد دمرته القوى المتصارعة من كل صوب، لكن ككل مجتمع فمشكلات الإنسان الفرد لا تتوقف عند مشكلاته الكبرى، بل تتعداها إلى حيث المجهول، وهذه هي إحدى وظائف السينما الوثائقية، في تسليطها الضوء وبفعل استقلاليتها على صراعات اجتماعية وسياسية هي في حكم الممنوع. يأتي فيلم «ليالي هبوط الغجر» الحاصل على شهادة تقدير من المهرجان، من بين أفضل تلك الأفلام الوثائقية التي عرضت. فمن بين كل تلك الطوائف التي يعج بها العراق، والتي تتباهى بأصالتها و«تحتكر حق الوجود الأعظم لها»، ينطلق المخرج هادي ماهود إلى تلك الفئة المحرومة والمعدمة، التي تبحث لها عن وجود يضمن لها ابسط حقوقها الإنسانية، فضلا عن وجود عقائدي أو سياسي. وماهود لم يكتف في الفيلم بعرض مأساة الغجر في جنوب العراق وحسب، وإنما تطرق وبجرأة بالغة إلى من وراء هذه المأساة الإنسانية، إلى من يقف خلف الشعارات الأخلاقية والدينية والطائفية. أولئك الذين يتملقون ويفدون أرواحهم وأموالهم وأهليهم في سبيل شعارات براقة، كانوا وبصورة بشعة خلف ذلك النكران المشين لحق إناس ليس لهم حول ولا قوة في كينونتهم التي ولدوا عليها. ماهود كان حادا وجادا في موضوعه، وقد بدت بصمات إدانته واضحة في كل لحظة من لحظات الفيلم، التي تمزج بين الحدث ونقيضه، وبين الإثبات والإنكار. الفيلم الأخر «يوم في سجن الكاظمية للنساء»، الذي فاز بالجائزة الثالثة لأفضل فيلم وثائقي لمخرجة عدي صلاح، الذي تطرق في عمله إلى موضوع تكاد تكون الحقيقة فيه صعبة، والقراءة الموضوعية فيه متعسرة، إلا أن المخرج استطاع استخدام حياديته في الموضوع لإظهاره على أفضل صورة ممكنة، حيث لم يستخدم أي موسيقى طوال الفيلم وأشار إلى جريمة كل سجينة ومحكوميتها، كما انه لم يغفل الجانب الرسمي متمثلا بمدير السجن ومراقبيه. إلا أن ما يعيب الفيلم هو محاولته تسليط الضوء على كل شيء، غير انه لم يستطع أن ينهي أي شيء، وبقية إشكالات كثيرة أثارها الفيلم، من دون تفنيد وبحث واف لها. أما الفيلم الوحيد الذي كان يغرد خارج السرب فهو فيلم المخرج العراقي الشاب محمد الدراجي «أحلام»، الذي سبق ان عرض في عدد كبير من المهرجانات السينمائية، وإن كان المجال لا يسمح بإسهاب الحديث حوله، فإن الفيلم، وبصورة مقتضبة، ومن بين الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة في المهرجان كله، كان هو الوحيد الذي يمكن الإشارة إليه بأنه سينما حقيقية.

[email protected]