يوسف شاهين يمر بواحدة من أخطر مراحل حدوتته المصرية

بعد 57 عاماً في صناعة الأفلام

يوسف شاهين يمثل الى جانب هند رستم («الشرق الاوسط»)
TT

في مطلع سبعينات القرن الماضي، تعرض المخرج الكبير يوسف شاهين لأزمة صحية، أدت لإجراء عملية قلب مفتوح له، وعلى الرغم من أوامر الأطباء بعدم إجهاد نفسه في العمل، والامتناع عن التدخين، إلا أن يوسف شاهين المتمرد، الذي لا يستطيع أن يوقفه أحد، واصل عمله بدون توقف، وبدون أن يقل حماسه أو تمرده على الجميع، لأكثر من ثلاثين عاماً أخرى حتى آخر أفلامه «هي فوضى»، الذي عرض في العام الماضي، ذلك الفيلم الذي حمل صرخة ضد الفساد والظلم اللذين يعاني منهما الشعب المصري ـ بغض النظر عن المستوى الفني للفيلم والعديد من الملاحظات التي تسجل عليه ـ فهو حلقة في مشروع شاهين السينمائي المتمرد، الذي بدأه مع أول أفلامه «بابا أمين» عام 1950، عندما قدم معالجة غير اعتيادية في ذلك الوقت، وقدم صورة الأب بشكل لم يكن مألوفاً وسط أفلام مقولبة ومتشابهة.

استمر يوسف شاهين في تقديم أفلامه تحت وطأة متطلبات السوق التجارية، ولم ينس أن يقدم أفلاماً حملت بصمة وتميزا سينمائيا مثل «ابن النيل» «صراع في الوادي» و«صراع في الميناء»، حتى قدم أول تحفه السينمائية العظيمة «باب الحديد»، الذي لاقى هجوماً شرساً عند عرضه الأول في مصر، نظراً لاختلافه الشديد عن السينما الاستهلاكية السائدة، ومع ذلك حظي بتقدير عالمي يليق بحجم المنجز السينمائي الذي حققه، بعدها قدم فيلمه المهم «جميلة الجزائرية»، وألحقه بأربعة أفلام لم يستطع من خلالها تحقيق طموحاته الفنية، حتى جاءته الفرصة من جديد، ليثبت لنفسه وللعالم أنه واحد من أهم المخرجين العرب وليس المصريين فحسب، عندما قدم تحفته الثانية «الناصر صلاح الدين» عام 1963، ذلك الفيلم الذي لا يزال قادراً على التنافس مع أضخم الإنتاجات الهوليودية تكلفة، قدم بعده واحدا من أهم أفلامه هو «فجر يوم جديد»، قبل أن يسافر إلى لبنان عدة سنوات على أثر خلافات مع القائمين على الإنتاج السينمائي في مصر، وقدم هناك واحدا من أفلامه المهمة مع فيروز عام 1965، وهو فيلم «بياع الخواتم»، كان شاهين قد حقق في تلك الفترة نجاحات سينمائية عالمية واسعة، وعرضت أفلامه في احتفالية كبيرة في فرنسا، وعندما عاد إلى مصر لم يتوقع أحد أن يكون فيلم شاهين الجديد وقتها هو فيلم «الأرض»، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للأديب عبد الرحمن الشرقاوي، لأن الصورة السائدة عن شاهين في ذلك الوقت، كانت تحصره في نطاق المخرج «الخواجة» المتعالي فكرياً على الجميع، ولكن تحفة شاهين الثالثة «الأرض» أثبتت مدى مصِرية شاهين وأصالته، ومدى اهتمامه بقضايا وطنه وأمته، بعدها حل العصر الذهبي للروائع الشاهينية المتتالية في عقد السبعينات، من خلال تقديمه لثلاثية ناقشت أكثر العقود تخبطاً في تاريخ مصر، تلك الثلاثية التي حاولت أن تبحث وراء أسباب النكسة وأن تطلق تحذيرها من الأمراض الاجتماعية والسياسية التي تغلغلت في بنيان المجتمع المصري، أمراض مثل الازدواجية وتفشي الكذب والفساد والإهمال، والتشبث بأحلام واهية من دون أن ننظر إلى المستقبل، وهي «الاختيار» «العصفور» و«عودة الابن الضال».

وختم شاهين عقد السبعينات بأولى أجزاء رباعيته الذاتية الشهيرة بفيلم «إسكندرية ليه؟» عام 1978، ذلك الفيلم الذي ناقش من خلاله ـ إلى جانب سيرته الشخصية ـ أحوال المجتمع المصري في أحد أحرج فتراته أثناء الحرب العالمية الثانية، ومن ثم تغيب أربع سنوات كاملة حتى عاد بالجزء الثاني من رباعيته «حدوتة مصرية» 1982، وهي المرة الوحيدة التي يلتقي فيها بالأديب الكبير يوسف إدريس، محققاً معه واحداً من أفضل أفلامه التي تغوص في جوانب النفس الإنسانية، منذ فيلمه «الاختيار» وقبلهما فيلم «باب الحديد»، يعود شاهين بعدها للأفلام التاريخية مرة أخرى لتقديم فيلم «الوداع يا بونابرت» 1985، يلحقه في العام التالي بفيلمه الغنائي الذي أهداه إلى جون كيلي عام 1986، فيلم «اليوم السادس» والذي شهد آخر تعاون له مع ممثله المفضل محسن محيي الدين، قبل أن يتركه الأخير إلى الأبد، كما شهد نفس الفيلم تعاونه الوحيد مع المطربة داليدا، الذي يعد الفيلم المصري الوحيد التي اشتركت به، ذلك الفيلم شكل لشاهين أهمية كبيرة في مسيرته ونقطة تحول في أفكاره، ليقدم بعده في مطلع عقد التسعينات الجزء الثالث من رباعيته الذاتية «إسكندرية كمان وكمان»، ليكون آخر روائع وتحف شاهين السينمائية العظيمة حتى الآن، الذي قدم من خلاله واحدا من أفضل أفلامه النفسية والفانتازية في ذات الوقت، يقدم بعده أكثر أفلامه التي لاقت هجوماً حاداً غير مسبوق بل وصلت إلى ساحات القضاء، وهو فيلمه «المهاجر» عام 1994، بسبب اقتباس أحداثه عن قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وبسبب ما تعرض له شاهين من انتقادات وهجوم، قدم فيلمه التالي «المصير» عام 1997، عن قصة حياة الفيلسوف ابن رشد، الذي تعرض للنفي وحُرقت كتبه، نظراً لمنطقه وفكره الذي تعارض مع الفكر المتبنى من قبل السلطة، ممثلة في أبي جعفر المنصور والجماعات المؤيدة له، وفي عام 1997 نال شاهين أكبر وأهم جوائزه، عندما نال جائزة الدورة الخمسين من مهرجان كان السينمائي الدولي عن مجمل أعماله، وكانت تلك آخر محطات ومراحل شاهين السينمائية المهمة في مسيرته، قبل أن يقدم أفلامه الأربعة الأخيرة التي مثلت كل منها خطوة إلى الوراء في مسيرة شاهين، بدأها عام 1999 مع فيلم «الآخر»، الذي لم يحالفه التوفيق في معالجة أفكاره، وامتلأ الفيلم بالخطب السياسية الزاعقة والمباشرة التي لم تدار مستوى الفيلم المتواضع، وجاء فيلم «سكوت .. ح نصور» كأول أفلام شاهين في الألفية الجديدة، الذي تخبط بين القالب المرح الذي صيغ فيه وكم الرموز والدلالات التي أثقلت الفيلم، ثم يجيء عام 2004 ليقدم شاهين من خلاله آخر أفلام سيرة الذاتية «إسكندرية.. نيويورك»، الذي أفسد عظمة وروعة الأجزاء الثلاثة الأولى، مما جعل بعض النقاد يعتبرون الفيلم كأنه لم يكن، ولا يزالون يطلقون على أفلام شاهين الذاتية بالثلاثية، أما آخر أفلام شاهين «هي فوضى» فقد حاول من خلاله العودة إلى المشروع الشاهيني الحقيقي، الذي بدأه من قبل، ولكن الفيلم لم يكن أكثر من مجرد محاكاة لذلك المشروع، من دون أن يحمل المستوى الفني المتميز ليوسف شاهين، إنها رحلة طويلة وممتدة لأهم مخرج سينمائي مصري على الإطلاق، وواحد من أهم أعمدة ومدارس الفن السينمائي في مصر، رحلة استمرت حتى الآن سبعة وخمسين عاماً في صناعة الأفلام، منذ عام 1950 عندما كان المخرج الكبير ابن أربعة وعشرين عاماً فقط، والآن وقد تخطى عامه الثاني والثمانين، ويحمل في مسيرته ستة وثلاثين فيلماً روائياً طويلاً وخمسة أفلام قصيرة، إضافة إلى تكريمات وجوائز محلية ودولية لا حصر لها، وقبل كل ذلك تاريخ مضيء ومشرف في سماء الفن المصري والعالمي، وكما مر المخرج الكبير بأزمة صحية في مطلع السبعينات، لم تمنعه من إكمال مسيرته ورسالته، فهو يمر الآن بأزمة صحية هي الأشد طوال حياته، نقل على أثرها لتلقي العلاج في باريس، نتمنى لمخرجنا الكبير الشفاء العاجل، ليظل معنا دائماً قيمة فكرية وفنية وإنسانية صادقة وعظيمة.

[email protected]