تشي جيفارا في ملحمة سودبيرغ السينمائية

الجزء الغامض من حياته قبل الثورة ومسيرته النضالية بعدها

مشهدان من فيلم «حرب العصابات» («الشرق الاوسط»)
TT

لم يعد الحديث حول الثورات الاشتراكية والشيوعية ورموزها بنوع من المصداقية والموضوعية وربما بمظاهر احتفائية يندرج ضمن المحرمات السينمائية والفنية التي كانت تحارب بضراوة سنوات الحرب الباردة مثلما كانت المكارثية في أمريكا يوما من الأيام ندا لها. والشيوعية بحد ذاتها وبعد انهيارها لم تعد تمثل خطرا فكريا على المجتمعات الرأسمالية، التي خشيت في زمن مضى ذلك التنين الذي بدأ ينفث لهيبه في كل مكان، وزرع في كل مكان بذرة مقلقة في عدد كبير من مناطق الصراع العالمية بلغت في كوبا مثلا حد التوتر السياسي والعسكري مع جارتها الولايات المتحدة الأمريكية، رأس الرأسمالية الغربية وحاميتها الأولى. لكن كل ذلك تغير الآن، وأصبحت مثل هذه الموضوعات هي بمثابة حديث عن الماضي، والحكايات حول الشيوعية أصبحت حكايات توثيق تاريخية ولا أكثر. والحقيقة انه لا شك في حقيقة ذلك إذا كان مدار الحدث هو ستالين أو خروتشوف أو الثورة الثقافية الشيوعية في الصين أو حروب فيتنام أو خمير كمبوديا الحمر أو حتى فيديل كاسترو نفسه في كوبا، إلا أن الأمر مختلف تمام الاختلاف عند الحديث عن تشي جيفارا. فتشي لم يكن يمثل مجرد رجل ثورة سياسية حقق في وقت من الأوقات إنجازات عسكرية وسياسية على المستوى الأممي وحسب كما كان صديقه فيديل كاسترو، ولكن كان أنموذجا يصعب تكراره لرجل نظر إلى مبادئه بدوغمائية لكن تعلوها النزاهة البالغة، وسعى لتحقيقها بغض النظر عن أية عواقب وخيمة أو نتائج كارثية لشخصه وحركته، وترك غير آسف كل مغريات السلطة والمال والجاه في سبيل تحقيق عالمه الطوباوي من العدالة الشيوعية والاشتراكية الاقتصادية. إنها شخصية تجاوزت التاريخ وأصبحت شخصية كونية تصلح لأن تكون شاهدا على عصر مضى وأنموذجا ثوريا لمستقبل مقبل. ومن هذا المنطلق أصبحت شخصية تشي جيفارا شخصية جذابة وحيوية ذات مادة دسمة وخطيرة أيضا لأي قراءه فنية وسينمائية حتى بعد مرور أكثر من اربعين سنة على مقتله، وحتى بعد انهيار كثير من تلك الشعارات الشيوعية في ذلك الزمان. قبل عدة سنوات قام المخرج البرازيلي والتر ساليس بتحويل مذكرات تشي جيفارا في سنواته الأولى، التي اسماها «مذكرات دراجة نارية The Motorcycle Diaries» إلى فيلم سينمائي، ونالت حيادية ساليس وفاءه لروح النص الأصلي للمذكرات وابتعاده عن إسقاطات دعائية لهذا أو ذاك، نالت استحسان الجميع. وحينها كان قد أعلن أن سودبيرغ بصدد إخراج فيلم يدور حول تشي، ودارت تكهنات كثيرة حول كنه الفيلم ومدى جديته في تناول شخصية تشي من كل أبعادها، إلا أن تاريخ سودبيرغ السينمائي لا يكشف إلا عن مخرج أمريكي يتميز بشجاعة ووعي كافيين لأن تأتي التنبؤات الأولية إيجابية ومتفائلة. لقد جاء فيلم سودبيرغ استكمالا لما ابتدأ به ساليس في «مذكرات..» من غير أن يكون هناك تنسيق مسبق، حيث تناول والتر ساليس الجزء الغامض من حياة جيفارا قبل الثورة، وانطلق سودبيرغ بعيد انتهاء رحلة جيفارا تلك بعدة سنوات. وقد عرض فيلم سودبيرغ في مهرجان كان الفائت كقطعة واحدة من جزءين تحت اسم واحد «che» مدته أربع ساعات ونصف، إنما وكعادة مثل هذه الأفلام الهوليوودية الضخمة فإن شركات التوزيع لن تقبل بفيلم طويل كهذا ليعرض في صالات السينما التجارية. ومن هنا سيخرج الفيلم لاحقا على جزءين منفصلين يحمل الأول اسم «الأرجنتين The Argentine» فيما الثاني «حرب العصابات Guerrilla». مهما يكن من أمر فإن البون الشاسع في جزئي الفيلم من الوضوح بمكان لأن يفصل من الأصل، فليست الفترة التاريخية هي الفارق الوحيد، بل تجاوزت ذلك إلى التباين في الشكل والصورة ولغة الفيلم السينمائية، وهي الخطوة التي تحسب في الواقع لصالح سودبيرغ الذي استطاع وببراعة أن يحمل الصورة أقصى ما تحتمل من بلاغات دلالية تتواءم وذات الحدث، وعدم الاقتصار كما هي الأفلام الملحمية عادة على السرد القصصي والحكاية التاريخية البحتة. الجزء الأول تناول جيفارا قبيل الثورة الكوبية وحتى انتصار الثورة ودخول هافانا. جاء هذا الجزء بخطوط متعددة وأزمنة مختلفة راوح فيما بينها متنقلا بين هذا الحدث وذاك واستخدم الأبيض والأسود بصورة تعبيرية رائعة لتمييز الزمن الآني في الفيلم عن الأزمنة المختلفة التي كان يعبر بها عن ماض ما يختلف باختلاف وجهة نظر المشاهد، فهو ينظر إلى ما قبل الثورة باعتبارها ماضيا للثورة الآنية في الفيلم، وما بعد الثورة ماضيا تاريخيا بالنسبة للمشاهد. إن هذا الصخب والتوتر الشديد والسرعة في الحدث في الجزء الأول عكست هي الأخرى روح الحماسة والتفاؤل والبهجة التي كانت تحيط بالثورة الكوبية من كل جوانبها. كما أنها لم تغفل فلسفة جيفارا الثورية ورؤيته المستقبلية لعالم وشعوب كان يظن أنها على استعداد وحماسه تامة لتصدير ثورته إليها، وهذا ما خلص إليه جزؤه الأول، إلا أن الجزء الثاني ومنذ دقائقه الأولى كان مغايرا تماما، فالتوتر انخفض إلى حدود قصوى، ولم يبق من الزمن سوى زمن واحد يسير ببطء وتأن. لقد كانت ثورة جيفارا في بوليفيا تختلف كثيرا في مكوناتها وطاقاتها وحتى مبادئها، والثوار في بوليفيا كما هو الشعب لم يكن بمثل ما كان عليه الكوبيون الذين كان يثيرهم عبق الماضي ويتوقون لمستقبل شاب تصعد فيه الطبقة المسحوقة الى حيث صناعة القرار. وبالتالي استغنى سودبيرغ في هذا الجزء عن كل الأزمنة الأخرى لعدم حاجتها، واسترجاعه للماضي في هذا الجزء سيخرج الفيلم من حالته النفسية المحبطة والجافة في ذات الوقت وسيضفي عليه نزعة ميلودرامية هو في غنى عنها، ولعل هذا ابرز ما تميز به جزء سودبيرغ بصورة عامة، وهو على اية حال نهج انتهجه سودبيرغ في كثير من افلامه. فالتراجيديا والمأساة تأتيان في سياق تجريدي بحت دون الإمعان في تكثيفهما على نحو مغالى فيه. وهنا يجدر بنا الإشارة الى الممثل بينيسيو ديلتورو الذي قدم دورا هو من افضل ادواره على الإطلاق. وعلى الرغم من عدم التقارب في المظهر بينه وبين تشي حتى في الفيلم نفسه رغم كل جهود الماكياج المبذولة، إلا ان ديلتورو قدم اداء رائعا استحق عليه جائزة مهرجان «كان» لأفضل ممثل كما انه لن يغيب دون شك عن سباق الأوسكار نهاية هذا العام. فاز ديلتورو بجائزة افضل ممثل، إنما سودبيرغ كان ايضا مستحقا لجائزة افضل مخرج، كما ان الفيلم بذاته ايضا كان مستحقا للسعفة. سودبيرغ استطاع ان يعزز مكانته في السينما الأمريكية كواحد من ابرز صناعها واكثرهم جرأة على خوض غمار التجريب والتجرد قدر الإمكان من اي نمطية تمارس سطوتها على شكل الصورة السينمائية وتطورها في فيلم ملحمي تاريخي كان التجريب عنوانه والتجرد مضمونه.

[email protected]