«كباريه».. الأفضل فنيا عكس جميع التوقعات

في الأسبوع الخامس من الموسم السينمائي الصيفي بمصر

مشهدان من فيلم «كباريه» («الشرق الاوسط»)
TT

قد يبدو أمراً غريباً للوهلة الأولى، أن يبدأ صناع فيلم اختاروا «الكباريه» عنواناً لفيلمهم ومسرحاً لأحداثه، بمئذنة مسجد ثم تتحرك الكاميرا لنتابع خروج المصلين من بوابته، وتزداد تلك الغرابة عندما يذهب أحد هؤلاء المصلين «أحمد بدير»، إلى الكباريه لنكتشف أنه مقر عمله. تتلاشى الغرابة تدريجياً عندما ندخل عالم بقية الشخصيات الازدواجية التي يزخر بها الفيلم، بداية من المغني الشعبي «خالد الصاوي» وجامع أموال الزبائن «علاء مرسي»، اللذين اختارا الزواج من نساء متدينات ومحجبات، وصولاً إلى أعلى درجات الازدواجية الدينية، التي يجسدها بشكل كاريكاتيري ساخر «صلاح عبد الله»، مالك ومدير الكباريه الذي لا يشرب الخمر ولا يقترب من النساء، ومع ذلك يستحل لنفسه أموال فتيات الليل اللاتي يعملن عنده، كما يستغل أخاه «ماجد الكدواني» وشريكه السابق في الكباريه، ويحوله إلى أحقر موظفيه بتولي «دورة المياه». وتتحول تلك المغالاة الساخرة في إبراز الازدواجية إلى واحد من أفضل مشاهد الفيلم، عندما يمسك ذلك المدير بكوب من الحليب ويستمع إلى موشح «مولاي إني ببابك» للنقشبندي، عازلاً نفسه تماماً عما يدور في صالة الكباريه، وكأنه بهذه الطريقة قد أصبح غير مسؤول عما يحدث أمام الله.

هذا الشكل الفني الساخر كان موفقاً جداً في الوصول بأسرع الطرق إلى أحد أهم مضامين الفيلم، لأن شخصيات العمل تهتم كثيراً بالأقنعة التي ترتديها، لتجد لها مكاناً داخل عالم الكباريه، ذلك العالم الذي يعتمد في المقام الأول على البهرجة والإبهار البصري، حيث تمتلئ ديكورات المكان بالألوان الصاخبة، ويتزين جميع الموجودين بأكبر قدر ممكن من المساحيق لإخفاء هويتهم الحقيقية، تلك الذوات الحقيقة التي تحمل صوراً معاكسة تماماً لما يطفو فوق السطح، وتتعرض للكثير من الكبت والضغط. كل ما تنتظره هو لحظة انفجار مدو لتظهر على حقيقتها، وهو ما يتحقق فعلاً بنهاية الأحداث مع الوصول لأعلى لحظات الذروة.

وربما لأن الكباريه مكان ذو طبيعة خاصة لا يمكن الذهاب إليه منفرداً، فإن شخصيات الفيلم تتلاقى هناك عن طريق عدد متتال من الدعوات، من قِبل شخصيات أخرى ولأهداف متباينة تماماً، وتترتب دائماً نتائج غير متوقعة على أثر تلك الدعوات، فـ«دنيا سمير غانم» مثلاً لم تكن لتذهب إلى الكباريه من دون دعوة «جومانا مراد»، التي من الممكن أن تكون وصلت هي نفسها إلى الكباريه بنفس الطريقة، وهي بشكل ما ستتسبب في دعوة أمها (المتوفاة) لاحقاً إلى الكباريه، كنتيجة حتمية لكشف أمها للقناع الذي ظلت ترتديه طوال الوقت، حتى لو كان بعد موتها، مدى فداحة النتيجة التي سيصل إليها «خالد الصاوي» أيضاً، كانت بناء على اصطحابه لسيدة الأعمال العراقية «هالة فاخر» إلى الكباريه، التي ستتخلى عنه من أجل المغني الجديد «إدوارد»، الذي كان «خالد» بالتأكيد أحد أسباب وصوله إلى هذا المكان. ذلك الانقياد السلبي هو ما سيدفع مثلاً بالعريس «سليمان عيد» للسهر في حفلة زفافه داخل الكباريه، ليدخل في دوامة من تعاطي المخدرات إلى حد الصراخ. هناك دعوة أيضاً سيوجهها المطحون تحت الأقدام «علاء مرسي»، كي تشهد عائلته لحظة وفاته، وتأتي الدعوة التي جاء من أجلها الإرهابي «فتحي عبد الوهاب» من قِبل أمير الجماعة المتطرفة «محمود الجندي»، بعكس سلسلة الدعوات المفتوحة منذ بداية الفيلم، لأنها بالرغم من تسببها في جلب الإرهابي الجديد لتفجير المكان، فقد حملت الدعوة الإيجابية الوحيدة لـ«أحمد بدير» لخروجه من الكباريه، بالرغم من سذاجة طريقة إقناعه بأن عمله في الكباريه حرام فعلاً. لكن النتيجة التي رآها فتحي بعينيه غيرت أهم قناعاته، وجعلته يؤمن من جديد بأهمية الحوار وأثره الحقيقي على الآخرين، بعيداً عن التطرف والإرهاب. غير أن دعوته الإيجابية الأخيرة تلك، تضيع أمام النظرة المتطرفة العمياء إلى الأمور، التي سيدفع ثمنها الجميع بلا استثناء، عدا ذلك الفار بجلده أو الذي لم يستطع الوصول من البداية أو من ماتت قبل أن تصل إلى هناك.

مضامين الفيلم والشكل الفني الممتع في تقديمها، لا تعني أنه فيلم متكامل تماماً وبلا عيوب، لكن عيوبه لم تؤثر سلباً بشكل كبير في البناء الدرامي للأحداث. ومن هذه العيوب مثل وجود خطين كاملين كان من الممكن أن يتم اختصارهما بشكل كبير، ومن دون أن يؤثرا سلباً في الأحداث، وهما الخاصان بـ«محمد شرف» و«سليمان عيد»، لأنهما لم يكونا من صميم دائرة الأحداث. وربما كان الغرض الأساسي منهما هو التخفيف الكوميدي من الجرعة الدرامية الجادة داخل الكباريه، إضافة إلى التأثر بفيلم «الجنة الآن» الذي وصل إلى حد التقليد، في الجزئية الخاصة بتحضير فتحي عبد الوهاب من أجل تنفيذ العملية الانتحارية. هناك أيضاً سذاجة في أجزاء من الحوار وفي بعض المواقف مثل طريقة هروب «دنيا سمير غانم» من الشبان الثلاثة الذين قابلوها في الشارع، لكن كل ذلك لم يقلل من قيمة الفيلم أو من متعته الفنية، بل يمكن التغاضي تماماً عنها أن فريق صناع الفيلم هم أنفسهم، السبكي منتجاً، وأحمد عبد الله مؤلفاً، وسامح عبد العزيز مخرجاً، وهو فريق قدم طوال السنوات الماضية مجموعة من أسوأ الأفلام المصرية على الإطلاق. ويكفي أن تلاحظ بأن فيلم «كركر» لمحمد سعد، كان آخر ما كتبه السيناريست أحمد عبد الله، لكن الروح الفنية الرائعة التي جمعت هذا الفريق، تجعلنا نحييه على ما قدمه هنا، ليس فقط لأن الفيلم جيد الصنع ومتقن درامياً وممتع فنياً بالفعل، وليس لأنه أعاد اكتشاف دنيا سمير غانم في أهم دور سينمائي تقوم بأدائه منذ بداية مشوارها، أو أنه جعلنا نشاهد خالد الصاوي في دور مفاجئ ليثبت من خلاله أنه يمتلك موهبة حقيقية، لكن لأن الفيلم يأتي ليضع نفسه في صدارة أفضل أفلام الموسم الصيفي على الإطلاق، منافساً أفلاما أضخم تكلفة وأفلاما أخرى توقعنا من صنّاعها مستوى فنيا أفضل مما قدموه، وربما لن يكون غريباً أن نجد فيلم «كباريه» كواحد من أفضل خمسة أفلام لعام 2008 في قوائم الكثير من النقاد، ناهيك عن النجاح التجاري الذي يحققه الآن بجدارة يستحقها.