حدود فنية يصعب على السينما تجاوزها

المخرج البرازيلي ميرليس يخفق في تحويل رواية «العمى» لساراماغو سينمائياً

مشهدان من فيلم «العمى» («الشرق الاوسط»)
TT

لقد كانت الرواية منذ مطلع القرن الفائت احد المنابع الرئيسية للحكاية السينمائية، وهي دون ادنى شك قد اضافت اليها لمسات كبيرة ساهمت في تشكيل الصورة السينمائية التي اصبحت في ما بعد اقرب الى فن الرواية من اي فن آخر من الفنون الأخرى بما فيها فنون الصورة والأداء من مسرح ورقص وغناء. إلا ان هناك حقيقة وهي اصرار بعض صناع السينما على تجاهلها ويرون في المصباح السحري عصا سحرية قادرة على صناعة وتحقيق كل شيء. والحق ان السينما خاضت تجارب طموحة ومذهلة وغير متوقعة، وقد حالفها النجاح في كثير من هذه التجارب، إلا انه لا تزال هناك حدود فنية يصعب على السينما تجاوزها، وبالأخص حينما نتحدث عن اقتباس السينما لأفكارها من الأوعية الفنية الأخرى او من الأدب تحديدا. وهذا الخطأ هو تحديدا ما وقع فيه المخرج البرازيلي فيرناندو ميرليس في آخر اشرطته السينمائية Blindness «العمى» الذي كان افتتاحية مهرجان «كان» السينمائي في دورته السابقة والمأخوذ عن رواية جوزيه ساراماغو الشهيرة التي تحمل نفس الاسم، وكانت سببا في نيل ساراماغو جائزة نوبل للآداب عام 1998.

عندما سئل ساراماغو قبل عدة سنوات عن سبب رفضه تحويل روايته الى فيلم سينمائي قال: ان السينما تقوم بتشويه وتسطيح الخيال. وهو محق في ذلك الى حد بعيد. السينما كما هي الرواية تقوم على إشباع مخيلة المتلقي، ولكن على النقيض من الرواية التي تقوم بإشباعها عبر شحذ هذه الملكة في مخيلة القارئ الفردية وتنشيطها، تقوم السينما بذلك عبر فرض مخيلة جماعية واحدة وتصور جمعي يشارك فيه كل مشاهد، فالصورة المتخيلة في الرواية هي في عقل الفرد بينما في السينما هي على شاشة العرض، وعبر هذا المفهوم يكون وصف ساراماغو للسينما بأنها تشويه للمخيلة حقيقي، ومدى إمكانية السينما لأن تكون بيئة مناسبة لرواية ما هي ايضا تنطلق من هذا المفهوم، فإذا كانت الرواية ترتكز في طرحها الفكري على مخيلة صورية نفسانية هلامية الشكل والصفة كما هو الحال في رواية ساراماغو فإن السينما تفشل كثيرا في تحويلها الى نص سينمائي متماسك ويسير جنبا الى جنب مع الرواية الأصلية بما تحمله من خيال موغل في الفردية. عند ساراماغو كانت الاحاسيس اللاصورية غالبة على الاحاسيس الصورية، فأبطال الفيلم يعيشون العمى ونحن ايضا نعيشه، اما في الفيلم ولأن السينما صورية بدرجة كبيرة، فقد اغفل الفيلم الجانب الأهم من الرواية لحساب الجانب الأكثر قابلية لتحويله سينمائيا.

انتزع ساراماغو في روايته كل إحساس بالزمان والمكان، فهو لا يحكي تاريخا معينا ولا بلدة معينة، وهذا ما لا تستطيع السينما إغفاله، خصوصا في رواية لها نفس واقعي كما هو الحال مع «العمى». وهو ما اضعف ايضا من الفكرة الأساسية التي تقوم عليها الرواية. لقد بذل ميرليس جهدا واضحا في مجال الضوء والصورة اللذين شكلا معا وبصورة رائعة خليطا مربكا من الفوضى والنظام والإنسانية والبوهيمية، من المدنية والهمجية، إنما كل ذلك تم ولم يكن للعمى حضور كبير، تسبب به قصور الصورة عن الوصول الى صيغة مناسبة، يمكن فيها ان نكون في ذات الحدث لا خارجه، بلغة الصورة لا بلغة الراوي الذي يقوم بتلقين المشاهد ما يجب ان يشعر به، ويتضح هذا الضعف بشكل واضح عند مقارنة مثل هذا العمل بعمل بارع بقيادة مخرج بارع كما في فيلم The Diving Bell and the Butterfly للمخرج الأميركي جوليان شنابل، الذي تعامل مع الحبكة الأدبية البالغة الخصوصية بسينمائية فريدة ورائعة.

ميرليس مخرج متمكن ويتميز بمهارات صورية واقعية عالية وحاول قدر الإمكان الإبقاء على احداث الرواية كما هي، ثم أجاد في صناعة اجواء من الفوضى المريعة والوحشية والهمجية التي تحدث عنها ساراماغو في روايته، كما واجاد في استخدامه للإضاءة الفاقعة التي كانت تعبر بصورة او اخرى عن جمال عالم سوداوي يقف خلف هذا الغشاء الأبيض. ثم أجاد مرة اخرى في اختياره لطاقم جيد تحمل عبئا كبيرا في إضفاء بعض الجوانب الإيجابية للفيلم، ابتداء من جوليان مور ومارك روفالو او بقية الطاقم التمثيلي المتنوع الجنسيات. لقد كونت تلك الإجراءات بمجموعها فيلما جيدا رغم عدم نجاحه في نقل الرواية بفكرتها ومخيلتها كما اراد الكاتب ان تكون وليس فقط بتسلسل احداثها وحسب.

[email protected]