أين تتراجع صالات السينما وتتقلص المشاهدة السينمائية؟

السينما العربية لم تعد قادرة على محاكاة الطفرات العلمية والتقنية

صالة سينما حديثة شبه خالية («الشرق الاوسط»)
TT

ثمة موضوع جدير بالحديث عنه والكتابة بصدده وهو ظاهرة التلقي السينمائي. ما أثار انتباهي هو حديث للشخصية السينمائية المرموقة نور الدين الصايل مدير المركز السينمائي المغربي، الذي شخص بشكل دقيق ظاهرة الإنتاج والتلقي في مقابلة نشرتها «الشرق الأوسط»، وأجرتها معه الكاتبة لطيفة العروسي. يقول الصايل:«إن هجر الجمهور لصالات السينما ظاهرة عالمية لا تخص المغرب وحده ولا يعتبر مؤشرا على فناء السينما. فباستثناء نسبي لأميركا والهند، كل الدول تراجعت فيها أرقام المشاهدة وتراجع فيها عدد الصالات السينمائية، لكن هذا ليس مؤشرا على فناء السينما لأن هذه الأخيرة نجحت بشكل كبير بعرضها في الوسائل الأخرى مثل التلفزيون».

للسينما تاريخ ذهبي اتسم أحيانا بالاعجاز في الإنتاج ونظم الإنتاج وقدرة المخرجين والممثلين والفنيين في مرحلة من تاريخ القرن العشرين، وكانت مدينة هوليوود السينمائية منطلقها وحيث وضعت تقاليد الإنتاج السينمائية يقودها خبراء إنتاج وخبراء اقتصاد ومال ومصارف. وبغياب وسائل الثقافة الحديثة التي نراها في عصرنا الراهن ممثلة في البث الفضائي والأقمار الاصطناعية وتطور عالم الإنترنت ووسائل الاتصال كان للسينما وهج متميز يستقطب المشاهدين في متعة ذهنية وحسية وجمالية، لعبت بضرورة التأثر والتأثير، دورا في تطور العملية السينمائية.

وعندما ظهر البث التلفزيوني في شكله الأولي، فإن شاشة التلفزيون سرقت عددا لا يستهان به من مشاهدي السينما، لكن سرعان ما اكتشف الجمهور بأن عالم السينما لا يمكن استبداله بسهولة. فالشاشة العريضة هي غير شاشة التلفزيون المحدودة السعة والضوء يسقط في صالة السينما على شاشة السينما في حين ينبعث الضوء من شاشة التلفزيون على المشاهد وفي هذا تأثير فسيولوجي على عين المتلقي. والتلفزيون ضيف ثقيل مفروض على المتلقي في حين حرية الاختيار في المشاهدة والتلقي تعود للمشاهد نفسه. والسينما تشاهد في الظلام فيما نشاهد التلفزيون في البيت وسط لغط العائلة والرد على المكالمات الهاتفية. كل ذلك أعاد الاعتبار للسينما وعادت الناس لعالمها الساحر الجمال في طقوس ليس من السهل التخلي عنها واستبدالها.

في أميركا السينما لا تزال مزدهرة وأرقام شباك التذاكر تعلن عن ذلك كل أسبوع. أما في أوروبا فإن الوضع مختلف وهو متعلق بالعملية الإنتاجية أكثر منه في عمليتي التوزيع والعرض. هناك مشكلة تسويق الفيلم السينمائي المحلي الذي يعاني من مشكلة الاستقبال عالميا بسبب طبيعة اللغة، وأذكر اليونان وهولندا كمثلين في أوروبا. في اليونان مثلا تشكل اللغة عاملا أساسيا في العملية الإنتاجية، لكن على مستوى العروض السينمائية، فإن لصالات السينما ألقها وجمهورها الواسع في عرض الأفلام غير اليونانية، الأميركية على وجه الخصوص. ويسري هذا المثل على هولندا، حيث حجم الإنتاج محدود والتوزيع أيضا بسبب طبيعة اللغة، لكن الأفلام الأميركية تلقى إقبالا شجع على بناء مجمعات سينمائية وليس بناء الصالات المفردة. كما أن سعر التذكرة قد تضاعف ولا يزال الناس يؤمون صالات السينما رغم عدم تطور مستوى الفرد اقتصاديا. وفي المهرجانات السينمائية في أوروبا يصعب الحصول على تذكرة إذا لم يكن ثمة حجز مسبق.

لقد انتهت سنوات العسل التلفزيونية بعد أن تكررت الأفكار والبرامج واستنزفت البرامج قدراتها وشعر الناس بأنهم سجناء وأن التلفزيون قد أفقدهم ليس حريتهم في الحركة إنما حريتهم في الاختيار.

دعونا نستثني الهند من المعادلة والسبب يعود إلى أن الهند كانت قبل بضعة عقود تنتج الأفلام بمعدل فيلم واحد في اليوم، واليوم أصبح معدل الإنتاج أكثر من فيلم واحد في اليوم، بسبب تعدد الشركات الإنتاجية وتدني كلفة الإنتاج السينمائي. لقد شاهدت فيلما متنوع المشاهد ومواقع التصوير، وفيه عدد غير قليل من النجوم وعدد كبير من الراقصين والكومبارس، شاهدته في مهرجان فريبورغ في سويسرا وسألت المنتج عن كلفة إنتاج الفيلم، فأخبرني بأن مبلغ الميزانية والكلفة الحقيقية للفيلم هو سبعة وثلاثون ألف دولار فقط. إن حجم سكان القارة الهندية وسعر تذكرة المشاهدة وفقدان وسائل المتعة لشعب فقير يحب أن يحلم بالثراء والحب تجعل من السينما «بضاعة رائجة»، لذلك فنحن نستثني من كتابتنا هذه ظاهرة السينما الهندية.

فأين تتراجع صالات السينما وأين تتراجع ظاهرة المشاهدة السينمائية؟

هذه الظاهرة نلمسها بشكل واضح في البلدان الناطقة بالعربية في منطقة الشرق الأوسط. ويعود السبب إلى حالة الأمن غير المستتب في كثير من بلدان المنطقة. لقد تغيرت الظاهرة الاجتماعية باتجاه الانطواء وتغيرت ظاهرة الثقافة باتجاه التسطيح. وتغيرت ظاهرة الحرية باتجاه الفوضى، وكل ذلك كان مرتبطا بطبيعة النظم السياسية وغياب النهج الديمقراطي «الحقيقي» وليس الشكلي، ما شجع على تنامي ظاهرة الإرهاب ليس بمعناه العنيف والمدمر فحسب، بل أيضا بمعناه الأخلاقي ما حدا بالعائلات إلى الانطواء في المنازل والبحث عن متعة المشاهدة للبرامج التلفزيونية وفي أحسن الأحوال مشاهدة الأفلام في ما يطلق عليه «سينما البيت». هذا ينعكس بالضرورة على المشاهدة السينمائية بعد أن تغير شكل العرض السينمائي. فالسينما ليست فقط مشاهدة منزلية لفيلم سينمائي في منزل حتى وإن كان مترفا ويتسع لأكثر من عائلة، لكن شكل العرض السينمائي النظامي في صالات السينما هو شأن مختلف تماما في حسابات المسافة بين الشاشة والمتلقي وفي حسابات فيزياء العين والسمع وفي احترام طقوس الظلام وحرية الآخر. لكن الواقع الأمني فرض حالة العزوف عن الذهاب لصالات السينما بعد عناء العمل وتفضيل الاستراحة البيتية والمتعة السهلة عبر قنوات التلفزة الفضائية أو مشاهدة الأفلام في سينما البيت، وذلك سبب خسائر مالية لصالات السينما وشراء الأفلام والخدمات الفنية والإدارية، فأغلق الكثير من صالات السينما أبوابها في منطقة الشرق الأوسط وبشكل خاص العربية منها.

علينا أيضا ألا ننسى ظاهرة الحروب الأهلية والصراعات الدموية للشعب الواحد وهيمنة أفكار سلفية على الواقع السياسي السلطوي والاجتماعي. فصالات السينما على سبيل المثال في العراق تهدمت جميعها تقريبا وتحولت إلى أنقاض وحتى لو بقيت الصالات السينمائية سالمة فإن المسارح والسينما ليست فقط في غياب الأمن قد أصبحت خالية من المشاهدين، لكن في غياب الكهرباء عن الوطن العراقي! وفي لبنان فإن الحرب الأهلية اللبنانية لا يزال أثرها واضحا في ظاهرة المشاهدة السينمائية وفي صالات السينما، وتراجع الاقتصاد اللبناني لعب هو الآخر دورا سلبيا على ظاهرة المشاهدة. وبشكل خاص اقتصاد المواطن اللبناني ناهيك عن ثقافة المحرمات التي تعممها مؤسسات سياسية في لبنان عبر وسائل إعلامها المرئي، هذا البلد المتميز في طبيعة صالاته السينمائية ذات التاريخ العريق في المشاهدة وطقوس العرض وطبيعة الأفلام التي تتميز بها كل صالة من الصالات، وحتى صالات العرض الشعبية التي كانت في ساحة البرج في شكلها الشعبي القديم. فيما كانت ظاهرة المشاهدة السينمائية في أميركا خلال الحرب العالمية الثانية تحصل حتى ساعات الفجر ويؤمها العمال الذين يعملون لساعات عمل استثنائية ليلا بعد عودتهم من أعمالهم فجرا فيذهبون لمسارح الغناء وصالات السينما التي تقدم لهم أفلاما موسيقية وأفلام التسلية.

إن واقع تراجع ظاهرة المشاهدة السينمائية في المنطقة الشرق أوسطية والعربية منها بشكل خاص هو ظاهرة مؤسفة ومؤلمة حقا ويحتاج إلى قراءة ودراسة فهو انعكاس طبيعي وحضاري بالمعنى السلبي ويمثل صورة أكثر وضوحا للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العربي، يقابل ذلك في أوروبا عودة للمشاهدة السينمائية وهروب من المنازل أو بالأحرى أخذ اجازة استراحة لبضع ساعات في الأسبوع لمشاهدة تتسم بحرية الاختيار والمتعة الذهنية والعاطفية والجمالية.

يبقى السؤال عن طبيعة هذه الأفلام وطبيعتها الفنية، فإن ظاهرة العصر لا شك غير قادرة على محاكاة الفيلم الكلاسيكي في ما نطلق عليه العصر الذهبي للسينما. لكن الكثير من الأفلام السينمائية صار يستفيد من القفزة التقنية العلمية لكتابة موضوعات تنسجم مع هذا التطور العلمي والتكنولوجي في عالم الصورة والتحريك. فسوف تغيب عن الشاشة قدرات الممثلين لتحل محلها قدرات كتابية تتمتع بمخيلات خارقة في عالم فانتازي الخيال تبنيه دراميا طاقات كبيرة وكثيرة تستقي موضوعاتها من الحكايات والميثولوجيا والأحلام وحتى من الروايات الخالدة في الأدب لتتحول إلى خيال جديد يثري عالم الجمال بفن يخرج السينما من كونها فن الواقع ويدرجها في فن الخيال.

من المؤسف القول بأن السينما العربية لم تعد قادرة على محاكاة الطفرات العلمية والتقنية والخيال مثلما لم تتمكن في السابق من محاكاة القيمة الفكرية والفنية الجمالية لسينما الواقع وسينما المجتمع، فكانت تعمل على تقليد الفيلم الأميركي وبإمكانات بسيطة لم تمكنها من تأسيس سينما في الاتجاه الصحيح للثقافة السينمائية. ويبقى التقليد للأسف سمة المثقفين والإعلاميين في المنطقة العربية. والقنوات التلفزيونية وبرامجها أنصع مثال على ذلك فأغلب برامجها هي نسخ مشوهة لبرامج الغرب حتى حدا بها الأمر لشراء برامج ليست جاهزة فحسب بل بطاقمها الإنتاجي دون القدرة على الإبداع. هذه الأفلام العربية ومستواها غير القياسي في الصورة والصوت والبناء والأداء تشكل هي الأخرى سببا في عدم رغبة المشاهد في إضاعة الوقت لمشاهدة فيلم يمكن أن يشاهد أفضل منه على شكل برنامج تلفزيوني أو مسلسل تلفزيوني أو تأجير شريحة لعرضها في سينما المنزل ودعوة الجيران للمشاركة وزيادة عدد المشاهدين في صالة البيت.

نستنتج من هذا أن ظاهرة تقلص صالات السينما وتراجع عدد رواد السينما هي ظاهرة عربية ونسبيا شرق أوسطية وهي ليست ظاهرة عالمية حيث تزداد وتنظم صالات العروض السينمائية والمجمعات السينمائية كماً، ويتطور شكل العرض السينمائي وتزدهر المهرجانات السينمائية سواء للفيلم الروائي الطويل أو للفيلم الوثائقي والفيلم القصير وحتى لأفلام أكاديميات السينما في العالم. وازدهار مهرجانات السينما العالمية هو انعكاس طبيعي لازدهار الثقافة السينمائية وبالتالي لجمهور السينما وبالضرورة لصالات السينما في العالم.

[email protected]