«فارس الظلام».. ظاهرة سينمائية جديدة

نص بارع استطاع أن يتخطى محيطه الزمني التقليدي إلى نسيج معقد من فلسفات عديدة

مشهدان من فيلم «فارس الظلام» («الشرق الاوسط»)
TT

إذا كانت السينما الأمريكية قد شهدت منذ بداية الألفية الجديدة عوائد اقتصادية مجزية تزداد باطراد عاما بعد عام، وتتسابق هوليوود كل موسم لكسر أرقامها القياسية وتحقيق عوائد غير مسبوقة، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لأن يشكل أيا من تلك المشاريع السينمائية الضخمة ظاهرة فيلمية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان كتلك التي حققها «تايتانك» Titanic قبل 11 عاما أو «حرب النجوم» Star Wars قبلها بعشرين عاما. إن مفهوم الظاهرة يتجاوز في مسبباته مسلمات المنطق التقليدي لتتولد مجموعة من الفرضيات الجدلية التي تتنافس فيما بينها في مَنْطَقة تلك الظاهرة، دون هيمنة احداها على الأخرى. وفيلم كريستوفر نولان الجديد «فارس الظلام»The Dark Knight قد بدت معالم ظاهرته بالتشكل حتى قبل أن يعرض في صالات السينما مطلع الشهر الماضي، وتحديدا بعيد وفاة الممثل الشاب «هيذ ليدجر» وأثره المحفز في بناء أسطورة كاريزمية كتلك التي جاءت عقب وفاة الممثل الأمريكي جيمس دين في خمسينات القرن الماضي. خصوصا وانه يمتلك كل مواصفات الشخصية الأسطورة، بدءا من صعود نجمه السريع، ومتانة أدواره، وشخصيته ومظهره الجذابين، وحالته الاجتماعية المستقرة فيما يمكن أن يكون نموذجا لـ «أمثولة النجم الشاب»، ثم بعد ذلك كله وفاته التي فاجأت الجميع عقب انتهائه من دوره الجديد الذي كان يسوق له بأنه أفضل أدواره حتى الآن. إن ذلك كان سببا رئيسيا ولا شك في تحول هذا العمل الضخم إلى ظاهرة سينمائية جاءت مظاهرها أولا في شباك التذاكر الذي حقق فيه نتائج تاريخية على أكثر من صعيد في اقل من شهر، وثانيا في تكوينه لقاعدة جماهيرية واسعة تجاوزت مفهوم «الكالت» أو «رابطة المعجبين التقليديين»، وأخيرا في بروز ظواهر اجتماعية في الشارع تحاكي نمطية شخصيات العمل وأبطاله. أقول، بالرغم من أن كل ما يقال حول الفيلم - الظاهرة صحيحا، إلا أن الأخوين نولان استطاعا أن يقدما إلى جانب ذلك عملا رفيع المستوى، ونقلة فنية هائلة لصنف بارز من أصناف السينما الأمريكية التجارية. نحن لسنا أمام مجرد فيلم آخر من أفلام «البطل السوبر»، فقد استعاض الأخوان نولان عن باتمان – الصورة الكلاسيكية - بفارس الظلام، وقد كسرا بذلك أهم المسلمات التقليدية لهذه النوعية، فأصبحت الفكرة تسبق النمط، والحكاية تعلو الشخصية. ان الفلسفة التي صاغها الأخوان نولان في نص بارع استطاع أن يتخطى محيطه الزمني التقليدي إلى نسيج معقد من فلسفات عديدة تمتد من تعاليم المعلم الأول وحتى أفكار المحدثين، ومن أكثر الفلسفات الميتافيزيقية تجردا إلى المادية الصرفة. لقد كانت حكايات «البطل السوبر» بكل أشكالها وألوانها ثورة وصرخة في وجه الحضارة المادية ومخلفات الثورة الصناعية المدمرة، ودعوة صارخة إلى قداسة الطبيعة. وشخصية «البطل السوبر» ذي الطفرة الجينية أو الخلقية ما هي إلا تكريس لهذه الفلسفة الطبيعية وقدرتها المهيمنة. ولكن مع «فارس الظلام» يتخذ الأمر مستوى فلسفيا آخر مجرداً من الأطر الزمنية. إنه صراع بين الخير والشر، لكنه بالغ التجريد وذو مرونة عالية في التشكل. ففي الوقت الذي يمثل فيه الجوكر «الشر» المحض، وباتمان «الخير» المحض فإن شخصيتيهما بذاتيهما لم تبديا ذات أهمية كبرى في العمل، وهما لم يبديا بأي حال من الأحوال بشرين تنازعهما الرغبات الإنسانية، إنما ناموسان يلقيان بظلالهما على بقية الطبيعة بكل مكوناتها المادية، وتأثيرهما المتعدي إلى حيث المجتمع هو ما اضفى على كلتا الشخصيتين توترا بالغ الأهمية. إن رؤية الفيلم للخير والشر غير واضحة، وهي لا تقوم بتقرير رؤية معينة، وإنما يقوم الفيلم باستعراض سريع لعدد من المفاهيم الفلسفية، يقوم ببنائها واختبارها ثم هدمها، فهو يشير تارة إلى أزلية الشر وكينونته في ذات الطبيعة البشرية، ويظهر ذلك مثلا في عبثية معاوني الجوكر، والاستماتة اللامحدودة في نشر الشر وتحقيقه في غياب تام لأي محفزات فطرية بشرية. إلا انه في مواضع أخرى يبدو طارئا على الطبيعة البشرية وليس متأصلاً فيها، إنما تقوم بتحفيزه النوازع الفطرية كما في السلطة والقوة (عصابات المافيا) أو الرغبة (كما في شخصية هارفي دينت) أو الخوف كما هو في واحد من أجمل لحظات الفيلم، وذلك في حادثة العبارة التي قام الجوكر بتفخيخها ثم اختبار قدرة المجتمع على استحضار الخير أو غلبة الخوف من الفناء وغريزة البقاء في ملامسة دقيقة لنظريات «العقد الاجتماعي».

إن ما قام به نولان يملك دلالة كبيرة على قدرة السينما على صنع أفكارها بذاتها، وأنها قادرة على تحويل قصة كوميك أو حكاية شعبية بسيطة إلى ملحمة فكرية عاصفة، كما هي قدرتها الفائقة في تشكيل متصورات سينمائية ذات دلالات رمزية عميقة. لقد احتوى النص على كثير من العبارات التي عبرت بوضوح عن بعض أفكار الفيلم إلا أنها لم تخرج بأي حال عن إطار الصورة الفني، فهي تأتي على خلفية الحدث ومصاحبة للغة الجسد بايحائية بالغة الرمزية كتلك التي يتحدث بها هيذ ليدجر في شخصية الجوكر. الفيلم بدأ مثيرا وانتهى قلقا وبين هذا وذاك كان سوداويا وقاتما. ربما كانت لغة الجسد المهووسة لدى هيذ ساحرة، وقد يكون استطاع خطف الأضواء من بقية شخصيات الفيلم بما فيها باتمان نفسه. وربما تفعلها أكاديمية الفنون وترشح هيذ لأوسكار أفضل ممثل رغم وفاته، وهو يستحقها، إلا أن كريستوفر نولان كان بطل الفيلم الأبرز وساحره الأجمل.

[email protected]