رحيل أكثر من سينما

في رثاء رندة الشهال التي حملت ثلاث جنسيات.. وجنسية

رندة الشهال خلف الكاميرا («الشرق الاوسط»)
TT

عدت من الصحراء والمسافة البعيدة، إذ كنت أحدد مواقع تصوير لفيلم وثائقي جديد عن مدينة غدامس الأثرية التاريخية، وفتحت صحيفة في الطائرة لأجد نعشا محمولا على الأكتاف، وظننته شهيدا فلسطينيا أو عراقيا بسبب كثرة التفجيرات والموت المجاني الرخيص الذي تعيشه المنطقة، وإذا به نعش يحمل ثلاث جنسيات وجنسية. هو نعش رندة الشهال جنسيتها الأولى هي الجنسية اللبنانية، حيث ولدت وترعرت في بلد الثقافة والحرية وعملت على أن لا تمس لا حريتها ولا حرية بلادها من قبل الأفكار الماضوية. والجنسية الثانية هي الجنسية العراقية، حيث هي عراقية من الأم التي يعتز بها العراق كأول يسارية عراقية يؤرخ بشخصها شيوعيو العراق الحركة النسائية اليسارية. والجنسية الثالثة هي الجنسية الفلسطينية، حيث دافعت عن فلسطين ليست وحدها، بل إلى جانب أختها الكاتبة والسياسية نهلة الشهال. أما الجنسية الشاملة فهي جنسيتها السينمائية والانسانية.. هي رندة الشهال. الصديقة والمبدعة التي لن أنسى ما قدمته لي في مسيرتي السينمائية، ليس لي وحدي فهي تقف بشكل جدلي وعملي مع كل من تعرف من السينمائيين. سينمائية لا تعرف الأنا ولا اغتراف الفرصة ولا انتهازها فلغيرها قبل نفسها في فرص الإنتاج. تعرفت الى رندة الشهال عام 1977 عندما أردت إخراج فيلم «عائد إلى حيفا» إذ شاركت معي وهي العارفة اللبنانية بالممثلين الذين اقترحتهم أن يلعبوا بعض أدوار شخصيات الفيلم وكان ترشيحها لبطلة الفيلم الممثلة المبدعة حنان الحاج علي. واكبت رندة الشهال تصوير فيلم عائد إلى حيفا في مدينة طرابلس وحضرت تصوير مشاهد نزوح الفلسطينيين عام 1948. عام 1982 وعند فاجعة مجزرتي صبرا وشاتيلا كنت بحاجة إلى مصور أوروبي لكي يتمكن من دخول المخيمين إلى جانب مصور ياباني تمكن من تسجيل بعض الوثائق، فاستنجدت برندة الشهال وسرعان ما طلبت من مصور فرنسي تعرفه أن يأتي إلى بيروت ويسجل لي المقابلات والإسرائيليون لا يزالون يطوقون المخيمين، حيث دونها لم يكن بمقدوري تصوير فيلم صبرا وشاتيلا لكي أوثق الواقع بسخونته مباشرة بعد المجزرة. حاز الفيلم ذهبية مهرجان دمشق عام 1982.

ركضت السنوات تحمل فوق ظهورها أعمارنا وعلب أفلامنا الوثائقية والروائية، وعندما خرجت من مخيم اللجوء في زفولا بهولندا ومنحت حق العيش خارج وطني ذهبت إلى مهرجان روتردام السينمائي الدولي لأشاهد فيلم المتحضرات لرندة الشهال ولم تكن هي قد حضرت العرض لكن الفيلم الذي أدهشني بقوة بنائه ووضوح فكرته وجرأة الفكرة والشكل والأداء أثار إعجاب مشاهدي هولندا حيث تمكن الفيلم من شد الجمهور الذي لا ينظر للفيلم العربي بإعجاب لما ينقصه من لغة التعبير ومفرداتها السينمائية، لكن متحضرات رندة الشهال كان مختلفا.. كان فيلما سينمائيا تخطى المحلية دون أن يفقد ملامح الواقع، بلغته السينمائية.

يوما كتبت سيناريو لفيلم عن ديكتاتور عربي وأسميته «المغني» وأرسلته إلى رندة فقرأته في نفس اليوم، وعندما شعرت بأهمية الموضوع اتصلت بمدير قسم السينما في الآرتي الفرنسي وحثته على قراءة النص الذي أعجب فيه وأحاله إلى لجنة السينما الذي أقرته للإنتاج وجاءت مكالمتها لي «مبروك يا قاسم» قالتها كمن فاز لنفسه بجائزة سينمائية. وبدأت تحاور المنتجين الفرنسيين لتنفيذ الفيلم وكانت آخر جلسة لنا قبل عامين، حيث وقعت للمنتج الفرنسي تنازلها عن الفيلم الذي قدم للآرتي الفرنسي باسمها، تنازلت عن حق الإنتاج لصالحه ولصالحي وقدمت له ولي التهاني والأمل بأن أنجح في إخراجه. لم تكن رندة الشهال قد بذلت كل ذلك الجهد لي فهي تقدم كل ما تستطيع لكل من تستطيع. أجريت معها لقاء مصورا صورته في سطح معهد العالم العربي في الهواء الطلق وكان حديثها الذي لم أبثه بعد وثيقة مهمة قرأت من خلاله واقع السينما العربية وواقع السينما اللبنانية بذات الوضوح الذي تقرأ فيه الواقع بأفلامها. يصفونها بالمشاكسة! وهي تبدو كذلك لمن يراها عن بعد! ولكن، أليست السينما شأنا مشاكسا للواقع، أو ليس الواقع يضم بشرا هم الآخرون في موقع المشاكسة والإثارة. البشر يحبون ويكرهون ويتخاصمون وتصل الخصومات والصراعات إلى حروب ودماء وتحترق حقب من التأريخ. لكن مشاكسة المثقف والسينمائي لا تتعدى التمرد حينا والغضب حينا آخر وحتى الحسد الذي قد يدخل في خانة المنافسة وفي رغبة التجاوز فهو مشروع للسينمائي وللمثقف إذا لم يتعد الجدل، وكثيرا ما وقفنا أمام أنفسنا حتى ولو كانت وقفة خجولة أمام المرآة لنسجل تصفية الحسابات الدائنة والمدينة في الخطأ والصواب.. هي الحياة.

أنا لم أفهم في كلمة مشاكسة التي وردت في أحد المقالات إدانة للراحلة رندة الشهال ولكنني فهمتها صفة إنسانية في حياة السينمائي والمبدع وهي لا تتناقض مع مبدأ «اذكروا حسنات موتاكم» سيما وحسنات رندة الشهال تتعدى المألوف والمتداول. نعم كانت رندة الشهال مشاكسة وهذه من محاسنها. أنا لا أدعي تفردي بمعرفة رندة الشهال فرسائلها لي قرأتها بعين الوعي وهي حتى في حالات الاختلاف تعبر عن صدق الموقف والصدق مع الذات. كانت رندة الشهال شخصية وطنية رافضة للاعتداء على حرية الشعوب ومن هذا الفهم جاءت أفلامها السينمائية معبرة عن هذا الموقف، موقف المشاكسة مع الخلل والمشاكسة مع الواقع وليس المشاكسة مع الآخر. ويأتي التقييم لتأريخها السينمائي خاضعا للمحاكمة النقدية على مستوى الشكل وأحيانا على مستوى المضمون. رحيل رندة الشهال خسارة للنهج السينمائي البديل في مسار سينما عربية غرفت من التجهيل والتسطح والتهريج الكثير ولم تبق لمدلول السينما الثقافي سوى القليل كانت رندة الشهال في مسار هذا القليل الجاد والثقافي والمتميز.

ما يدمي القلب هو الرحيل المبكر للإنسان وللمثقف حيث جدول الإنجاز للحياة لم تشطب فقراته كاملة، والأجمل دائما هي الفقرات الأخيرة من جدول الحياة حيث تتسم بنضج التجربة واكتمال الوعي فتأتي متسمة بعمق التعبير وقوة اللغة ورصانة الأداء شرط أن لا يتمادى المخلوق الإنساني بالمكابرة ويضيف فقرات غير مدونة في جدول حياته فيسقط في نتاج التخريف. أن يعرف الإنسان لحظة التوقف عن الأداء والتوجه نحو التأمل فيتحول المنتج إلى متلق بارع ومبدع في التلقي. وما بين الرحيل المبكر للسينمائي على وجه الخصوص والتوقف عن الذهاب بعيدا والتمادي في القوة وصفاء الذهن خارج نطاق الفيزياء، ما بين هذا وذاك يكمن الحزن والبكاء على الرحيل، وهذا هو مبعث الحزن في رحيل رندة الشهال إذ لم تشطب من جدول حياتها فقرات كثيرة ربما كانت تشكل إنجازا متفردا في تأريخ سينما جادة ومبهجة ومختلفة لسينما عمل جند من التجار على وضعها في مسار السخف أدى لمعاناة عدد من محبي هذا الفن في احتدام المعركة غير المتكافئة. وتقع مسؤولية هذه المعركة على عاتق الأنظمة التي تروج لثقافة مسطحة بهدف إذلال الشعوب لأن في حريتها يكمن اختفاؤهم وسقوطهم حتى كمواطنين. ذلك ما يدعو السينمائيين للبحث عن مصادر لتمويل أفلامهم الجادة. وهذا التمويل باشتراطاته قد يقود للمساومة هنا أو هناك لأنه خاضع لشروط إنتاج الرؤية الثقافية للعرب من خارج جغرافيتهم. ومحاورة سينما رندة الشهال لا تنفصل عن هذا الواقع بكل تفاصيله التي لم نتوصل بعد إلى أين يكمن الخطأ وأين يكمن الصح. فالخضوع لشروط الإنتاج العربية يسقطنا في التهريج والسطحية والخضوع لشروط الإنتاج الداعمة من خارج المنطقة يأسرنا في موقف التكتيك للنفاذ من المطبات بأقل الخسائر. رندة الشهال كانت مقاتلة في الصفوف الأمامية لهذه المعركة وتحملت الكثير من الأعباء والهموم ولكنها كانت شجاعة، تدخل المعركة وتخرج منها بأقل الخسائر، لكنها رحلت قبل الأوان بكثير ما تعذر عليها شطب الفقرات الأخيرة للإنجاز السينمائي في قائمة الحياة.. وهنا تكمن الخسارة الفادحة لها كمبدعة وللسينما كثقافة ولنا كمتفرجين. شكرا رندة الشهال لكل ما قدمته لي من جميل الدعم والمشاركة.

وعذرا أني لم أحضر لحظة الوداع. فلقد فاجأني رحيلك مثل ما لم تفاجئني ولادتك السينمائية في مهرجان روتردام السينمائي بعد خروجي من مخيم اللاجئين! نبقى نحن أصدقاء السينمائية والإنسانة الجميلة رندة الشهال نحتاج لغزير من الدموع في وداعها.

* سينمائي عراقي مقيم في هولندا [email protected]