أمك «تمثل» مع الرجال

TT

قد يجد البعض في القولة التي عنونت بها هذا المقال ابتذالا لفظيا وبلاغيا، وهي في الواقع كذلك، إلا أن الموروثات والمقولات الشعبية المتداولة تتجاوز دائما منطوقها اللحظي والبلاغي إلى مستويات سيميائية أكثر دلاله وأهمية. كنا ونحن صغار نلعب لعبة ظريفة لا أظنها تغيب عن أي مجتمع مأخوذ بالمسجوع من الحديث كما هو حال مجتمعاتنا بكافة طبقاتها الاجتماعية والثقافية، تتلخص اللعبة في إبدال ملفوظات الأرقام أو مسميات الأشياء المفردة بجمل ذات معان حادة وساخرة تطابقها في ملفوظاتها الأخيرة، احدى تلك العبارات الأكثر شيوعا هي قولة «فنجال: أمك تلعب مع الرجال». لعبة تمتاز بظرافة وطرافة من نوع خاص تداعب مخيلة الطفل اللغوية الغضة، كما وتشبع رغبته في مقارعة الرفيق والسخرية من القرين. إلا أنها من وجهة نظر الأنساق اللسانية والثقافية فإن مثل هذه الملفوظات الدارجة لها دلالات تضرب في عمق الثقافة الشعبية، التي تعبر بصورة أو أخرى عن موقف اجتماعي متجذر تجاه قضية ما. إن الدلالة السيميائية لا تبدو خفية أو غامضة في سياق العبارة السالفة الذكر، إلا أن حدية التقابل والتناظر في بعض ألفاظها تجعل من استخداماتها الدلالية ذات أهمية بالغة. ويتمثل احد أهم استخداماتها الدلالية في استحضارها لأطهر شخصية وصورة تستوعبها عقلية الطفل «الأم»، لتعزيز ذلك الموقف المتطرف تجاه المرأة وعلاقتها بالرجل، وتنمية الدوافع الذكورية المهيمنة بالضرب على وتر الشرف والعار منذ سنواته الأولى. وليس ذلك فحسب، بل وفي استثمارها لمفهوم «اللعب» الذي يصعد من نوازع الشك والريبة السلبية في أي رابطة تربط بين الرجل والمرأة. إن الظواهر التي تبرز كشواهد على تلك الدلالات هي أوسع واكبر من أن يتم إحصاؤها أو حصرها في مقالة صحفية، خصوصا في مجتمع تصل مستوى القطيعة بين الجنسين خارج علاقات الدم والنسب إلى قطيعة شبه تامة. إلا أن ما استحثني لكتابة هذا المقال هو ظاهرة العنصر النسائي السعودي في وسط الدراما السعودية. إن المتابع لإنتاجات هذه الدراما في السنوات القليلة الماضية، سيجد حضورا متميزا للممثلة السعودية التي بدأت تأخذ دورها الحقيقي بعد أن كان يستعاض عنها، ولسنوات طويلة، عنها بعناصر، وان كانت محترفة. إلا أنها كونها غير سعودية يجعلها لا تجيد في كثير من الأحيان متطلبات الدور الذي تقوم به، ولا تتشرب خصوصيته. إلا أنه وعلى الرغم من ذلك فإن حضور الممثلة السعودية في الواقع هو حضور صوري مجهول الهوية، فظاهرة الأسماء الأحادية والثنائية التي تتبناها الممثلات السعوديات تكاد تكون السمة الأبرز لكل الأسماء النسائية، والحقيقة انه لا يهمني كما لا يهم أي شخص آخر انتماء أي من هذه الأسماء عائليا أو قبليا أو مناطقيا، إنما أن يكون التخلي عن الأسماء الحقيقية ـ على خلاف الممثلات الخليجيات والعربيات مثلا ـ ليس خيارا متاحا إنما ضرورة تفرضها مجتمعاتها، والخوف من سخط العائلة والمجتمع، فهو ما يثير القلق. فالممثلة السعودية ستبقى ذات حضور هامشي وصوري ومن دون تأثير يذكر طالما الخوف من شبح قسوة المجتمع يستحوذ على جل اهتمامها. واللائمة في ذلك لا تعود على المجتمع وحده، فعقيدة المجتمع ونظرته الجمعية مهما بلغ تجذرها في مخيلة أفرادها، فإنها تبقى ضعيفة أمام عزيمة أفراده. والمرأة لن تخطو خطوة إلى الإمام طالما لا تزال تخشى أن توصم بأنها «تعمل مع الرجال»، ولن تقارع الممثلة مثيلاتها في بقية أنحاء العالم ما بقيت تخاف أن يعيرها مجتمعها وعائلتها بأنها «تمثل مع الرجال». [email protected]