سينما الأندرغراوند.. أفلام خارج السرب

مصطلح تبلور في فرنسا في الستينات.. ولا يزال مستخدما

مشهد من فيلم «غريتينغ» لبريان دي بالما («الشرق الاوسط»)
TT

يخضع تيار سينما الأندرغراوند إلى تيارات السينما الجديدة التي نشطت في سنوات الخمسينات من القرن السابق والتي اتخذت منحى عاما أكبر نستطيع أن نطلق عليه السينما التجريبية. ويمكن تعريف سينما الأندرغراوند بـ (سينما تحت الأرض) وهي سميت كذلك لأنها تنتج خارج استوديوهات هوليوود وخارج نظم الإنتاج التي تشرف عليها الشركات الكبرى، فهي أقل كلفة وتسمح بمزيد من التحرر والتنويع وقد ظهرت في نيويورك في سنوات الخمسينات.

ولكن كان هناك امتداد حقيقي سابق ولاحق لهذا الاتجاه في أوروبا بشكل عام وفي باريس بشكل خاص وكانت بداية التمرد في باريس بقيادة بيير شيفر ومصلحة البحث التي يرأسها، إذ يعرفها (ميتز)-أي السينما التجريبية ـ على هذا النحو:

شلالات من الصور غير الهادفة والفوضوية على خلفية من أصوات الدق والنقر المختلفة يتوجها نص طليعي متكلف.

ولكن يمكن القول ان هذه الحركة ـ وليس الاندرجراوند ـ لأن الأندرغراوند هي سينما ظهرت في الولايات المتحدة بالذات ـ تبلورت في فرنسا عام 1968 عندما قرر وزير الثقافة الفرنسي أندريه مالرو إلغاء الدعم لمركز الفيلم الفرنسي.

يمكننا أن نصل إلى نتيجة بأن أفلام الأندرغراوند هي تلك الأفلام التي تحلق خارج السرب من ناحية الأسلوب أو المذهب أو التمويل، حيث كان توسع حرب فيتنام ـ وهذا لاحقا ـ بالإضافة إلى ظهور جيل جديد وصل إلى سن الرشد ليخلق ثقافة شبابية مفعمة بالراديكالية السياسية ـ والثقافة الشرقية الروحية (تناول مسائل مثل السحر والتنجيم) والتحرر الجنسي والتحليق بالمخدرات وموسيقى الروك أند رول.

كل تلك العوامل خلقت تيار سينما الأندرغراوند الذي من الممكن تسميته أيضا بتيار الثقافة المعاكسة، وكل تلك الأمور كانت كافية لانتشار هذه الحركة الواسع والعريض واعتبار نفسها حركة مستقلة، وكان الاستخدام الأول لمصطلح (أفلام الأندرغراوند) عام 1957 في مقالة للناقد السينمائي الأميركي ماني فاربر (Manny Farber) ليشير إلى أعمال المخرجين الذين لعبوا دور المقاوم في هوليوود.

ولكن وفي نهاية عام 1960 تمثلت الحركة من خلال صانعي الأفلام الذين كانوا قد نضجوا وبدأوا ينأون بأنفسهم عن الثقافة المعاكسة.

منذ البداية حققت الثقافة المعاكسة انتشارا واسعا في الأسواق وانتصارا كاسحا ابتداء من الأفلام الوثائقية لموسيقي الروك اند رول على شاكلة (Don،t look back) و(you Are What You Eat)، وأفلام الموجة الشبابية اكتسحت السوق خلال سنتين مثل فيلم «الخريج الشهير» واتبع في فيلم (I love You) حيث حقق الفيلم الأول 1967 والثاني على التوالي عام 1968.

في هذه الفترة بالذات بدأ تأثير جان لوك غودار في هذه الطليعة حيث لاحظ مدى التشظي والتجزؤ السياسي اللذين وصلا إلى الذروة.

ولكن ما الذي كان يحدث في فرنسا في هذه الفترة؟

كانت الموجة الجديدة هي قلب السينما الفرنسية الحديثة، وقد دعت في الخمسينات إلى سينما جديدة تتميز بالطابع الشخصي الحر في مقابل سينما ما بعد الحرب بحواراتها التي يصعب فهمها وصورها القاتمة وتمجيدها لنجومها، وكان سير جان بول سارتر في صفوف المتظاهرين الذين تعرضوا للضرب على أيدي رجال الشرطة يشهد بالتضامن بين المثقفين والسينمائيين.

جود بيير لود نراه بشكل منتظم في أفلام غودار، وفعلا كان فيلم قبلات مختلسة (من إخراج تروفو) من إنتاج عام 1968 يبدأ فعلا باحتلال مبنى مكتبة السينما الفرنسية.... كان لود هو الوجه السينمائي لهذه الفترة ولكن غودار كان عقل السينما في ذلك الحين وفنانها الرئيسي، من أفلام على شاكلة الصينية (1967) وفي عام 1968 أخرج فيلم «عطلة نهاية الأسبوع».

ولكن ظهر في هذه الفترة فيلم ستانلي كوبريك (2001) الذي-اعتبر- مستوعبا للتقدم التكنولوجي وثيمة الرواد مبتدعي ومطبقي الأفكار الحديثة ولا ننسى الكوميديا ـ التي اعتبرت شبيهة بالأندر جراوند ـ (Greeting) لبريان دي بالما التي حققت ضربات تجارية كبيرة (لعب دور البطولة في الفيلم روبرت دينيرو) وبعد أن نأى المثقفون بأنفسهم عن هذه الحركة ـ في الولايات المتحدة ـ أصبحت قضايا شكل الفيلم هي القضية الرئيسية. ومن الممكن القول، إن أعمال هذا الفترة الممتدة من 1966 حتى 1971 ـ مثل أعمال المبدعين (paul shaits) و(Ernie Gahr) كانت أعمالاً بسيطة خالية من الديكورات تمهيدا لاكتشاف صفات محددة للفيلم كحالة متوسطة قريبة إلى الفن التجريدي أكثر من عوالم سينما الاندرجراوند، هذا مع ظهور بعض الجماعات التي كانت مهتمة بالربح التجاري.

ثم جاءت قمة الأفلام المعبرة عن هذه الفترة في أوروبا وفي الولايات المتحدة التي تمثل روح الأندرغراوند ولكن من خارج الولايات المتحدة.... (نقطة زابريسكي) مع فيلم (التعاطف مع الشيطان 1968) لغودار. وإذا كان فليني في فيلم «ساتيركورن» قد نقل الثقافة المعاكسة إلى عصر ما قبل المسيحية بل وأعاد صياغتها مرة أخرى، فإن بازوليني في فيلمه (Teorema) قد هدم العائلة الصغيرة. وقدم أنتونيوني ـ وهو قدم سابقا فيلم بلو أب في بريطانيا الذي اعتبر طريقة أخرى للحكي ـ عام 1970 فيلم نقطة «زابريسكي» وكان بمثابة أكبر رد فعل مباشر على التحولات التي شهدتها تلك الفترة، حيث نرى ومن بداية الفيلم مباشرة بطله مارك (مارك فريشبت) يغادر نقاشا حول حركة الفهود السود قائلا: أنا أيضا مستعد للموت ولكن ليس بسبب الملل.....

ويتميز مشهد الانفجار الختامي المصور بالحركة البطيئة والمصحوب بموسيقى بيك فلويد بجمال مروع وهو شاهد على الخيالات المحدودة لهذه الفترة ويرمز للتمرد على القديم ويرسم نهاية مناسبة لمجتمع يفشل بسبب هوسه بالتطور التكنوقراطي.

وحتى الآن لايزال ينظر لفيلم (نقطة زابريسكي) باعتباره مانفيستو سينمائياً لفترته الزمنية يجسد تماما روح عصر الهيبز.

لكن ومع قوة التجريب في ذلك العصر، جاء الفيلم المعبر عن روح عصر الأندرغراوند من قبل مخرج على شاكلة أنتونيوني، بينما بقي بيرغمان هو سيد السينما بلا منازع.

بالنسبة إلى العصر الحديث ومع نهاية التسعينات وبداية الألفية أصبح التعبير مشوشا مرة أخرى فالعمل في مهرجانات الأندرغراوند أصبح بداية للامتزاج مع الأشكال التجريبية الرسمية فالانقسامات التي كانت قبل أقل من عقد بدت الآن أقل بكثير.

وإذا كان المصطلح ما زال مستخدما، فهو يشير ضمنا إلى نمط صناعة الأفلام المستقلة قليلة الميزانية جدا.

مؤخرا يعود بنا برتولوتشي في فيلم «الحالمون» إلى تلك الفترة، ولكن ليس لمناقشة الأساليب السينمائية أو أسبابها أو خلفياتها الاجتماعية أو الأيديولوجية أو الأنطولوجية والتي كانت سائدة في ذلك العصر، بل ليصرخ بقوة متسائلا:

أين كنا في ذلك الوقت....أين كنا عام 1968؟