أفلام العالم من أجل سلام العالم

قاسم حول

فيلم لمسعود حسيني عرض ضمن احتفالية خاصة بالسينما الإيرانية
TT

ينعقد في مدينة لايبزغ الألمانية بين السابع والعشرين من شهر أكتوبر وحتى الثاني من نوفمبر لهذا العام مهرجان السينما التسجيلية ولعله الأهم في تاريخ مهرجانات السينما التسجيلية في العالم. وسوف تعرض في هذا المهرجان أفلام من حوالي خمسين بلدا، تتنافس أفلامها على الحمامات الذهبية والفضية والبرونزية إضافة إلى جوائز المؤسسات المالية والاجتماعية والجوائز الثقافية للنقاد والكتاب. كما ستتنافس على الجوائز أفلام التحريك التي يكون لها مستوى آخر ولجنة تحكيم أخرى. وعلى هامش المهرجان وضمن برنامج «نافذة على العالم» اختيرت أفغانستان هذا العام مادة لهذه النافذة، حيث سوف تعرض مجموعة من الأفلام تحت عنوان «أفغانستان من الداخل».

مهرجان لايبزغ هذا تأريخ حافل في التطورات المتعلقة بالفيلم التسجيلي. فكثير من السينمائيين في العالم يولون الفيلم التسجيلي أهمية بالغة لعلاقته المباشرة بالواقع. هذا الواقع الإنساني الثري بالأحداث والمشكلات التي يشكل الفيلم التسجيلي مرآتها الصافية والناصعة، حيث يعتبر أولئك التسجيليون أن الفيلم الروائي كثيرا ما ينظر إلى الواقع من خلال المخيلة والرؤية الذاتية للمنتج، فيما الفيلم التسجيلي يتعامل بشكل أكثر مباشرة مع الواقع.

عام 1955 وفي الطابق الخامس من صالة سينما الكابيتول في مدينة لايبزغ الألمانية الديمقرطية السابقة، اجتمع عدد من السينمائيين التسجيليين في العالم ليقرروا تأسيس مهرجان عالمي للفيلم التسجيلي. كانت لايبزغ مدينة اشتراكية وشيوعية في إطار جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي سقطت بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. وهؤلاء السينمائيون هم من رواد السينما التسجيلية في العالم ومن مؤسسيها ومبدعيها وهم « جون جرير بوزاك، محمد الأخضر حامينا، البرتو كافالكانتي، ريتشارد البابوك، بوزان بوفار، دوسان فوكوتيك، تيودور كريستينسن، رومان كارمن، الياكو فالين، مانوئيل أكتافيو، سانتياغو الفارز، هايتوفسكي شويمان، كارل كاس، وأنيلي تورينداك» ناقشوا على مدى أسبوع كامل «أية مبادئ يجب أن تسود أسبوع الأفلام التسجيلية الذي تقرر إقامته في هذه المدينة». وقد قرروا أن يكون شعار المهرجان «أفلام العالم من أجل سلام العالم» وهو شعار شيوعي أكثر منه ثقافي وسينمائي في دعوة لتوجهات المعسكر الاشتراكي بإدانة فكرة الحرب وإدانة مجتمع رأس المال الذي يدمر العالم بحروبه من وجهة نظر المعسكر الاشتراكي. ويومها كانت الحرب الفيتنامية مشتعلة وكذا مشاكل السياسة ومجابهة ما يطلق عليه الإمبريالية التي كانت تقلق أمريكا اللاتينية في بوليفيا والبرازيل والارجنتين.

ولعل الصراع الألماني ـ الألماني بين شرق المانيا وغربها وتقسيمها بعد الحرب العالمية الثانية كان أحد الأسباب المشجعة لنشوء هذا المهرجان للاستفادة من هذه التظاهرة في إدانة ضمنية لمجتمع رأس المال الممثل في ألمانيا الغربية، فسعى المهرجان إلى دعم السينمائيين اليساريين وذوي الميول الاشتراكية في ألمانيا الغربية وتقديم أفلامهم بشكل دائم في المهرجان لكشف حقيقة المجتمع الألماني الرأسمالي العدو الدائم والماثل أمام أبصار الدولة الاشتراكية الألمانية وجمهورها المكبل بأشكال القيود من منع السفر إلى حرية التعبير وغياب التعددية السياسية والاجتماعية إضافة إلى العوز والفاقة في حرمانهم من شتى أنواع السلع التي يقتصر شراؤها على أعضاء اللجان المركزية والمكتب السياسي للحزب الحاكم، فيما تصورهم السينما وهم يعيشون في جنات النعيم.

اللجنة السينمائية التي اجتمعت ورسمت سياسة المهرجان ووضعت نظامه الداخلي كتبت إلى الرسام العالمي بيكاسو لاستخدام حمامته كشعار للمهرجان وكتب لهم بيكاسو رسالة التخويل والموافقة. وبقيت الحمامة حتى بعد سقوط ألمانيا الديمقراطية شعارا للمهرجان ولكن في السنوات الأولى بقيت حمامة من دون مهرجان من دون أفلام. فلم يعد من يهتم بالفيلم التسجيلي لأن الدولة التي كانت تستثمر المهرجان كدعاية ضمنية مضادة للغرب لم يعد لها وجود.

عدد من عشاق الفيلم التسجيلي ومخرجيه ونقاده لم يريدوا لهذا المهرجان أن ينتهي نهاية فاجعة كما نهاية دولتهم، بل أرادوا أن يعيدوا المجد للمهرجان ولكن من دون الايديولوجيا التي ذابت مثل ذوبان الجليد. ولكن الدولة الألمانية لا يعنيها كثيرا مثل هكذا مهرجان ويكفيها مهرجان برلين العالمي للأفلام الروائية الذي يشكل واجهة ثقافية مكملة لمهرجاني كان في فرنسا وفينيسيا في إيطاليا. تقدم عدد من التسجيليين الألمان، يتقدمهم الكاتب السينمائي والناقد الفريد غولر بطلبات دعم من مؤسسات المال ومصانع السيارات والمصارف التي ساعدتهم على إعادة الحياة لهذا المهرجان التأريخي الذي استقطب كل تسجيليي العالم على مدى أربعين عاما. وأول ما قاموا به هو إلغاء شعار المهرجان أفلام العالم من أجل سلام العالم وأبدلوه بشعار أكثر ثقافية وسينمائية وهو شعار «أنظر ماذا يحدث في الواقع» وهو الشعار الذي يجسد فكرة الواقع في الفيلم التسجيلي وهي دعوة لكي يسبر المبدعون التسجيليون حقيقة ما يجري في الواقع الإنساني من أجل كشف هذا الواقع من خلال عدسة الكاميرا. واحتراما لحمامة بيكاسو فقد بقيت شعارا للمهرجان وتكوينا لجوائزه الأساسية الثلاث.

لا أحد يستطيع النكران أن سنوات مهرجان لايبزغ شهدت نهوضا للفيلم التسجيلي وساهمت في دعم الكثير من السينمائيين بل وساهمت في عقد مؤتمرات لتأسيس اتحادات سينمائية ومنها اتحاد السينمائيين التسجيليين العرب، لكن الأيديولوجيا كانت نقطة الضعف في هذا المهرجان وكانت سببا في انهياره بانهيار المعسكر الاشتراكي والأيديولوجيا الشيوعية. ومن يريد أن يعرف تأريخ وأفكار تلك السنوات المزدحمة بالإبداعات التسجيلية، فإن مباردة الناقد هيرلنغهاوس في إصدار كتابه المعنون «تسجيليو العالم» قد أرخت ليس للمهرجان، بل لطبيعة الفيلم التسجيلي وصيغته الفنية وقيمته الفكرية، حيث أجرى لقاءات مع عدد من تسجيليي سينما الواقع لكي يكتبوا رؤيتهم الفكرية والفنية الجمالية لهذا النوع من الأفلام التي لعب مهرجان لايبزغ دورا في رسم معالمها.

نجح غولر ولجنته في إعادة الحياة لمهرجان لايبزغ في صالة سينما الكابيتول وهي ذات السينما التاريخية لمدينة لايبزغ. إلا أن هذه الصالة وبسقوط ألمانيا الديمقراطية قد بيعت وتحولت إلى صالة عرض تجارية من الدرجة الثالثة أو حتى العاشرة، إذ تمرد شباب لايبزغ ودخلوا الصالة لمشاهدة أفلام روائية جديدة قائمة بشكل مبالغ على العنف والجنس وصارت السينما ملاذا لهؤلاء المتمردين وعدد من العنصريين الذين يصرخون داخل الصالة ويرمون بزجاجات الخمر الفارغة داخل الصالة، فانتهت تقاليد أرستقراطية في المشاهدة وكذا في استقبال مهرجان لايبزغ سنويا للسينمائيين في ثلج المدينة الذي تغوض فيه أقدامهم ليلا وهم يغادرون آخر الأفلام في صالة العرض الخاصة بالمهرجان وفي مقدمتها صالة سينما الكابيتول.

لم يشعر رواد السينما بذات الألق الأرستقراطي للعرض والمشاهدة داخل مجتمع الطبقة العاملة ما أصاب اليأس المجموعة السينمائية التي حاولت أن تبذل جهدا في إقامة مثل هذا المهرجان. تأتي هذه المحاولة مع الهجمة الفضائية المفاجئة التي تخصص الكثير منها في الفيلم التسجيلي التلفزيوني، فاستوعبت هذه الفضائيات الكثير من الأنشطة السينمائية التسجيلية وحولتها إلى برامج، حيث فقد الفيلم التسجيلي ألقه وكانت ثمة بدايات مع بداية نهوض الفيلم التسجيلي تتمثل في صالات السينما التجريبية والثقافية التي لا تستوعب أكثر من مائة مشاهد لعروض الأفلام التجريبية والتسجيلية، لكن هذه الصالات التي كان متوقعا أن تتكاثر ويتسع حجم مشاهديها تلاشت هي الأخرى بسبب تطور فن التلفزة والعروض المتخصصة لما هو تسجيلي، بل ان الفيلم التسجيلي أخذ منحى متطورا جديدا وهو إدخال الروائية في الفيلم التسجيلي. وقد نجحت مؤسسات إنتاج كبيرة في تقديم ما هو تسجيلي بصيغة روائية وبطريقة مشوقة، لكنها أصلح للبرنامج التلفزيوني منها للفيلم التسجيلي السينمائي.

هذه الفكرة التي تلاشت تلقفتها لجنة المهرجان الجديدة التي تصر على ديمومة مهرجان لايبزغ وديمومة الفيلم التسجيلي فاستأجرت تجمعا لتلك الصالات الصغيرة التجريبية لتستثمرها في عروض أفلام المهرجان إضافة إلى العروض الرئيسة والافتتاح في مجمع سينمائي كبير وحديث لمدينة لايبزغ.

انتهى ألق سينما الكابتول وصارت صالة للمتعبين والمخمورين والعنيفين والعدوانيين ولم تعد فيها تلك اللوحات الكلاسيكية الجميلة شعارات العنصريين على جدرانها. أصبحت صالة وسخة شكلا ومضمونا ما يؤكد بأن الشعوب التي تسجن حريتها وتجبر على السلوك المتمدن تحت وطأة القانون القسري والفاشي وتحت عصا رجال الشرطة والمخابرات سرعان ما تبدي سلوكا في النقيض التام لما هو إنساني فتتخرب البلدان وتسودها الفوضى ما أن ينهار نظامها القسري. ألمانيا الديمقراطية مثلا في السياسات الشيوعية والعراق مثلا في السياسات الدكتاتورية الشرق أوسطية. أنظر ماذا يحصل في الواقع. هذا هو شعار مهرجان لايبزغ الجديد والبديل عن الشعار الشيوعي السابق «أفلام العالم من أجل سلام العالم». وعسى أن ينظر السينمائيون التسجيليون بعمق لهذا الواقع الذي يغلي على كافة الصعد ومطلوب كشفه سينمائيا.

* سينمائي عراقي مقيم في هولندا [email protected]