لويس بونويل.. صاحب الفيلم السوريالي الوحيد في تاريخ السينما

صنع فيلما يخدم أهدافا شكلية لحركة لم يكن ينتمي إليها

من فيلم «كلب اندلسي»
TT

يرى البعض أن لحظة التقاء لويس بونويل مع سلفادور دالي وأندريه بريتون ليخلقوا التيار الشهير والذي عرف فيما بعد بالتيار السوريالي كانت أهم لحظة من لحظات ذلك الزمن. قد لانستطيع أن نأخذ هذه المقولة على علاتها ـ على الأقل سينمائيا ـ لأن التيار السينمائي السوريالي انحسر مبكرا وهو لم ينجب سوى سينمائي واحد هو لويس بونويل، الذي حقق فيلمين أحدهما كان سورياليا أصيلا (كلب أندلسي) والثاني شبه سوريالي وربما كان سورياليا شكلا وليس مضمونا ليؤكد انتصار الشكل السينمائي الذي جاء معبرا عن الحياة والواقع والإنسان لأن فيلم (العصر الذهبي) جاء سورياليا شكليا ولكن في مضمونه جاء محملا بأفكار ثورية أصيلة وسيأتي الحديث عن ذلك. ولكن دعونا نحكي القصة من البداية: مع بدايات القرن العشرين ظهر ما يدعى بإشكاليات الحداثة وما بعد الحداثة ومن الطبيعي أن تلقي هذه المفاهيم بظلها على السينما بوصفها أحد أنواع الفنون، فانقسمت السينما إلى شكلين رئيسيين:

الشكل الأول عامل السينما كفن واضح المعالم وواضح القواعد وهو الشكل الذي اعتبر السينما أسلوباً للسرد السينمائي مستخدما القواعد المتبعة ـ والأمر لا يخلو من التجديد عند غودار بالذات ـ للتصوير السينمائي، وهو التيار الذي بقي على قيد الحياة حتى هذه اللحظة. ولكن التيار الثاني جاء ليستخدم السينما كشكل للتعبير عن اتجاهات فنية سابقة للسينما باعتبار أن السينما ليست مجرد وسيلة لعكس الواقع بل هي فن، فظهر العديد من الأفلام التي لا قصة فيها ولا سرد ولا ممثلون بل هي عبارة عن تجارب لونية تشكيلية تستفيد من قدرة السينما على الوهم بالحركة. وهذا التيار، وإن لم يكن بقوة الاتجاه الأول ولم يثبت استمراريته، ولكن أثبت أن السينما ليست سوى مزج بين هذين التيارين. على العموم نستطيع القول ان هذا الاتجاه، أي الثاني، تشكل من ثلاث مدارس أدبية فنية حديثة، أولها التعبيرية الألمانية وأسفرت عن فيلم (عيادة الدكتور كاليغاري) والمستقبلية الايطالية (الفيلم الهولندي القصير الجسر) ثم السوريالية التي أظهرت «موقفاً متأنقاً تجاه الثقافة مما يجعلها تقف موقف الضد من الحركة الدادائية. حتى لو أراد بريتون وأتباعه. إذا جاءت الحركة السوريالية أساسا لتأويل الثقافة والمثقفين والحركات الفنية (وحتى العلمية) وفقا لمفاهيم السوريالية باعتبار أن قياديي الحركة الثقافية التاريخية برمتها ـ على شاكلة فرويد وشكسبير أيضا ـ هم سورياليون، لكنهم لم يكونوا يعرفون ذلك.

وحتى لو كان السورياليون معجبين بعناوين سينمائية قديمة(قبل كلب أندلسي) مثل فيلم الأشباح(1913 ـ 1914) وسلسله تتابعت عن مصاصي الدماء عام (1915 ـ 1916) إلا أن انضمام لويس بونويل لهم حفر لهم مكانا قويا في ما يخص السينما بالذات بصناعته الفيلم السوريالي الأول والأخير ـ ربما ـ «كلب أندلسي»! في الحقيقة جاء فيلم «كلب أندلسي» تتابعات لقصص غير مفهومة ولا يستطيع المشاهد أن يستشف من الدقائق السبعة عشرة للفيلم سوى اللقطة الأولى منه التي يجرح بها شخص ما عين امرأة والتي فسرت بأن المشاهد يجب أن لا ينظر للسينما بعينه بل بعين أخرى ربما هي عين السينما نفسها، الأمر الذي جعل الكثير يخضعون الفيلم للتأويل ضمن نظريات التحليل النفسي وأحيانا التحليل التطبيقي، ولكن الفيلم حقق نجاحا كبيرا في حينه وجعل من أندريه بريتون ـ قائد الحركة ـ يمنح لويس بونويل لقب «سوريالي» وهو اللقب الذي كان يوزعه بريتون بالقطارة.

ولكن حتى فيلم «كلب أندلسي» يخضع لإشكاليات خطيرة يجعلنا ـ مع إطلاقنا عليه لقب الفيلم السوريالي الوحيد الأصيل ـ نعيد تأويله ضمن نظريات وضوابط غير سوريالية. جاء الفيلم أولا وأخيرا ضمن تأثر سينمائي (بونويل) بسوريالي (دالي) وليس العكس ـ دالي شارك بونويل في كتابة الفيلم، لكن البعض يرى أن هذا لا يحمل أي مدلول سوى أن دالي شارك بونويل في الإخراج أيضا. وسيقول بونويل فيما بعد ان الفيلم لم يكن سوى عبارة عن مزاح في مزاح، وسيقول أيضا بأنه لم يصنع الفيلم سوى لحفر مكان له بين السورياليين. وإذا كان بونويل قد صنع الفيلم بناء على القواعد الشهيرة للسوريالية مثل الكولاج ـ لصق صورا لاعقلانية مع بعضها ـ والكتابة الاتوماتيكية التي بدأت بجملة شهيرة (الجثة الشهية)، ولكن هذا التعبير غير دقيق لأن بونويل ودالي تكلما بتلقائية فعلا ولكنهما في نفس الوقت تعمدا حذف ما لا يعجبهما من هذا النص ـ جاء هذا في حوار شهير دار بينهما ـ واعتمادهما نصا متعمدا يتضح فيه ما أعجبهما.

وحتى دالي انقلب في لوحاته من شخص قصدي يظهر الأحلام في لوحاته إلى شخص يقصد فقط إظهار عدم الوضوح في لوحاته. كل ما تفهمه في لوحاته بأنه أراد فقط أن يكون غير واضح، ولكن هذا لا ينفي أبدا وبأي شكل من الأشكال عبقرية دالي واعتباره ضمن كبار فناني القرن. ثم ننتقل إلى فيلم العصر الذهبي الذي حققه دالي وبونويل أيضا لكن مع اختلاف القصد. ويكفي قول بونويل حول الفيلم: كان فيلماً واعيا تماما لأهدافه وأغراضه، حيث ان العبارات المضادة للتقاليد والثقل الاجتماعي المطالب به يفرض على مؤلفه بأن يتبع خطا لم يكن موجودا في الفيلم الأول الذي كان أكثر حرية في البناء. كان الفيلم سياسيا اجتماعيا عنيفا يخرج عن النمط التلقائي الذي طالب به السورياليون. يبقى بونويل هو وحده الذي استطاع أن يفكر بشكل سوريالي فيما يخص السينما بالتحديد، وصنع فيلما يخدم أهدافا شكلية لحركة لم يكن ينتمي إليها ـ على الأقل وقت إنتاج وعرض الفيلم عام 1929 ـ ونستطيع القول بكل ثقة ان تيار السينما السوريالية انتهى حتى مع أفلام بونويل نفسها التي كانت محملة بأهداف اجتماعية كلاسيكية كبرى مثل محاربة رجال الدين ومهاجمة الطبقة البرجوازية مع تجميلها ببعض اللقطات السوريالية خاصة في فيلم شبح الحرية، لكن كان فيلم «كلب أندلسي» فاتحة دخول سينمائي كبير إلى ساحة الفن السابع.

[email protected]