رسائل محرّفة تبعثها الدراما العراقية.. «مع رجل ميت»

امتلأت الدراما بالمناظر الدموية ومشاهد التعذيب وأجواء التوتر

أحد الأعمال العراقية التي شهدتها الساحة الفنية أخيرا («الشرق الأوسط»)
TT

المتتبع للدراما العراقية بعد 2003 يجدها قد تضخمت كما وتضاءلت نوعا، مع بعض الاستثناءات. واقتصر الانتاج فيها على الفضائيات التي تعود او تنحاز، بديهيا، الى جهة ما.. فصار طبيعيا ان تعكس الدراما رؤية وارادة تلك الجهة، مما افقد الكثير من الاعمال الحيادية والموضوعية، ونتج عن ذلك ان انقسمت الدراما الى جبهتين.. الاولى، تسعى ـ بلا تجرد ـ لكشف مساوئ النظام السابق واخطائه... والثانية تنتقد ـ وبلاهوادة ـ النظام الحالي، حيث صار الكتاب الذين «تألقوا» في زمن النظام السابق وجسدوا ارادته ـ دراميا ـ يلعنون ذلك الماضي الذي صنع اسماءهم وبدأوا بتحريض ذكرياتهم ضده. وظهر كتاب ما كان لهم ان يظهروا لولا التغيير الذي حصل في 2003 الذي منحهم فسحة كبيرة من الحرية للتفكير والتعبير، فكثرت الاجتهادات والادعاءات والتأويلات والتفسيرات حتى اختلط الحابل بالنابل. والاعمال التي ظهرت في العامين الماضيين عكست تلك العشوائية في التناول والطرح. ومع اشتداد حمى المنافسة التي تتطلب سرعة في الكتابة والتنفيذ «على طريقة سلق البيض» وصلت الامور الى حد مخالفة الواقع ومغالطة الحقيقة. وقد طبع تلك الاعمال طابع واحد هو العنف.. على اعتبار انه الميزة المشتركة بين النظام الحالي والنظام السابق... رغم تباين الاهداف والاساليب، فامتلأت الدراما بالمناظر الدموية ومشاهد التعذيب واجواء التوتر، اما للتذكير بالماضي او لنقد الحاضر، في حين اتسمت الكوميديا بالتهريج والصخب، واحيانا الاسفاف. ومن الاعمال التي عرضت في رمضان المبارك هذا العام، مسلسل «رسائل من رجل ميت» والذي يبدو انه كتب لمشاهدين يعيشون على كوكب آخر، لا يعرفون العراق ولا من يحكم فيه ولا ما يجري على ارضه من احداث، او ان المؤلف يعتقد ان مشاهديه لا يتابعون احداثا ولا ينتبهون لتحريف ولا يهتمون بنتائج، وسيهضمون ـ بشهية ـ كل ما يقدم لهم. ويروي المسلسل قصة رجل مصري عاد الى العراق بعد 25 سنة ليبحث عن ابنته، من امرأة عراقية، كان قد تزوجها وتركها والبنت في عامها الاول.. ولهذه المرأة ثلاثة اخوة، احدهم ليبرالي يعمل مع الحكومة الحالية والاحتلال ويحاول جمع اكبر قدر من الاموال لتهريبها الى الخارج، والآخر اسلامي، ارهابي. والثالث يساري فاحش الثراء.

ولا ندري كيف اصبح اليساري العراقي غنيا بهذا الشكل الخرافي؟ والجميع يعرف ان اليساريين العراقيين كانوا طوال الخمس والاربعين سنة الماضية مطاردين وملاحقين، بعضهم في السجون والآخر في المنافي.

والاغرب انه اصبح ملياردير في زمن النظام السابق، كما قال لابنة اخته: تعرفت على صديقتي المسيحية قبل عشر سنوات.. اي في زمن النظام السابق.. ومن خلال كل ذلك يبدو المشهد العراقي، في المسلسل، على النحو التالي: الليبراليون واليساريون هم من يحكم في العراق. وقد وضعوا ايديهم على ثرواته فاصبحوا اغنياء ومهربين، وبطريقة غير مباشرة يتواطئون مع الارهابيين، من خلال اخيهم الاسلامي. لقد حرّف المؤلف الواقع بعدم الاشارة الى المتنفذين والحكام الفعليين في العراق.. بل عمد الى اللف والدوران على الحقائق والصاق التهم بالفئات الاقل نفوذا وتأثيرا، خوفا من المتنفذين او انحيازا لهم وذلك بأبعادهم عن الصورة ليسلموا من النقد والاتهامات.. والا لماذا لم تظهر شخصية تنتمي للاحزاب الدينية الحاكمة ـ كأخ رابع للاخوة الثلاثة ـ او شخصية كردية مثلا؟ قد يكون هناك ليبراليون او يساريون اغنياء فعلا.. ومن حق اي كاتب ان يتناول ذلك في كتاباته بموضوعية.. لكن اظهارهم وكأنهم الفئة الوحيدة في الساحة والتي تهيمن على السلطة والثروات في العراق والمسؤولة عن كل الخراب الحاصل ـ وهو عكس الواقع ـ يدل على موقف شخصي، لا ديمقراطي، ازاءهم.

ان صنع دراما مختلقة من واقع معروف للجميع ومكشوف امام العالم، يفقد المؤلف مصداقيته وثقة مشاهديه، وسيكون عمله بالنتيجة عملا مزيفا. وهذه ليست المرة الاولى التي يستهدف فيها المؤلف الليبراليين ـ والمقصود هنا غير المتدينين ـ فقد شوّه صورتهم في عمل سابق، ولكنه اضاف هنا فئات اخرى هم اليساريون والمسيحيون ليستهدف بذلك الحلقات الاضعف في الساحة العراقية التي ليس لها جهات تدافع عنها او ميليشيات تحميها.. فاصبحت صيدا سهلا لأي كاتب ومادة مطواعة بيده بدون اي شعور بالمسؤولية الادبية والاخلاقية.

لقد عرض المسلسل معاناة رجل مصري مع امرأة عراقية.. او مع مجموعة من العراقيين، والمفروض ان يعرض العكس.. معاناة امرأة عراقية مع رجل غير عراقي، في ظل الصعوبات التي تواجه اللاجئين العراقيين والتعقيدات التي يسببها اختلاف القوانين بين البلدان العربية، وكم تعاني النساء من ذلك الاختلاف وخاصة موضوع حضانة الاطفال. لقد ظهر الرجل المصري وديعا لطيفا وسط هؤلاء العراقيين «القساة» ولم يقدم المسلسل اية شخصية عراقية ايجابية.. كل العراقيين الذين ظهروا اما قساة او منحرفون او مجرمون او مهربون.. الام، زوجة المصري السابقة، قاسية ومستبدة.. الاخوة: احدهم ارهابي حاقد على الجميع.. الثاني، انتهازي، سارق لأموال الدولة.. الثالث، خشن الطباع، مشكوك بأمره وامر ثرائه الفاحش.. الطبيب، خائن وذو شخصية مهزوزة واخوه زير نساء وسكير.. صديقة البطلة، خائنة ومنحلة وبلا وازع اخلاقي او اجتماعي.. الشباب ـ في العراق ـ مستهترون، يستفزّون الناس في الاماكن العامة وينشرون الرعب اينما حلّوا.. وها هي فتاة مسيحية اخرى يستهدفها المسلسل ويربطها بعلاقة سرية مع اليساري وهو ما يحصل دائما في الدراما العراقية.. فالمرأة التي تخطأ وتنحرف.. مسيحية والتي تعمل في الكابريهات والنوادي الليلية.. مسيحية! والتي تخطف الرجال من نسائهم.. مسيحية!.. وكأن النساء من الاديان الاخرى، معصومات من الخطأ.

اين الشخصيات العراقية المسالمة الطيبة التي يفترض تواجدها لتكون المعادل الدرامي لكل هؤلاء الاشرار؟ الشخصيات الايجابية الوحيدة في العمل هم الرجل المصري وابنته وعائلته والشخصيات العربية، فقط. تبدأ احداث المسلسل في العراق مع وصول الرجل المصري.. وتتصاعد سريعا بطريقة ميلودرامية.. تهديد، خطف، قتل، انفجارات، ضحايا... الخ من الاحداث التي كتب على العراقيين ان يعيشوها في حياتهم ـ كل يوم ـ ثم ترهقهم الشاشات الفضائية باعادتها عليهم ـ وبالحاح ـ على شكل مسلسلات!... ثم تنتقل الاحداث الى سورية ومصر فيتحول العمل الى مسلسل مكسيكي.. شواطئ ومايوهات وفتيات جميلات ومجالس انس.. وفي الجانب الآخر نكتشف انه ليس في مصر سوى مستشفى واحد.. لكي يلتقي، فيه، الرجل المصري المريض بابنته بعد 25 سنة وتشرف هي «من بين كل اطباء مصر» على علاجه بدون ان تعرف انه والدها.. «وهي قصة تناولتها عشرات الافلام العربية والهندية والاعمال المكسيكية طوال الستين سنة الماضية»... وتحدد هي نهاية حياته، التي عالجها ومررها المؤلف والمخرج باجتهاد شخصي منهما، بعيدا عن الجدل والمواقف المتباينة حول ما يسمى بالموت الرحيم.. وقد جاءت بعض الاحداث مفتعلة او محشورة مثل.. خطف الرجل المصري، في العراق، وانقاذه بسهولة ويسر... محاولة اغتصاب الفتاة وافلاتها من ذلك... الغني الشرير الذي كان يستغل النساء، لقد خدع او اغتصب، جميع النساء اللواتي عرفهن، الا ام الفتاة، لم يحاول ايذاءها او تشويه سمعتها. تحضير وتهيئة زميل طبيب يعجب بالفتاة، الطبيبة، حتى قبل ان تسوء علاقتها بزوجها وتنفصل عنه.. ولا اظن من المقبول ـ في المجتمعات العربية ـ ان يبدي رجل اهتمامه واعجابه بامرأة متزوجة بالشكل الذي اظهره المسلسل. والملاحظ ان هذا المسلسل يشبه بل ويقترب كثيرا من مسلسل عربي سابق هو«وجه القمر» الذي قدمته السيدة فاتن حمامة قبل سنوات.. لكن في وجه القمر كان الطرح موضوعيا والتناول منطقيا والمعالجة هادئة.. في حين افتقد هذا العمل الى تلك الاسس والشروط... في «وجه القمر» وضع طرفي الصراع في كفتين متعادلتين واعطى كل منهما تبريراته المقنعة.. في حين لم يعط المؤلف في هذا العمل تبريرات قوية او مقنعة للكثير من الاحداث والشخصيات.. مثلا، عدم سماح الام للرجل برؤية ابنته لم يكن مبرر ابدا.. لأن الفتاة كبيرة وناضجة و تعمل طبيبة، اي مسؤولة عن ارواح الناس، فلماذا لا تتحمل مسؤولية نفسها وقرارها ؟.. الا اذا اراد ان يؤكد ان سلطة الاهل على الفتاة دائمية مهما بلغت من العمر والتجربة.. ولو قصد ذلك سيكون قد ناقض فكرته.. لأن عائلتها كانت متحررة واخوالها لبيرالي ويساري.. وامها تملك زمام امورها بيدها، فلا سلطة للاهل عليها اذن، وبالامكان اخبارها بالحقيقة باعتبارها راشدة.. لكنه اظهر الفتاة ضعيفة الشخصية، مترددة، حتى في عملها كطبيبة، اتكالية، تستنجد بأمها في كل صغيرة وكبيرة وكأنها طفلة في العاشرة، ليبرر بذلك اخفاء حقيقة ابيها عنها ودكتاتورية الام عليها، الغير الواقعية ايضا.... ولكي يخلق تلك المعاناة للرجل المصري!.. ثم اهتمام الاخوة الزائد بأختهم وابنتها غير واقعي ولا مقبول.. فكأنهم لا هم لهم ولا عمل ولا اهتمام غير تلك الاخت وابنتها.. وما اسهل سفرهم وتنقلاتهم بين البلدان العربية لنجدتها!... التغيير في شخصية الطبيب وسلوكه الشائن وخيانته لزوجته لا اساس لهما ولا تبرير، فقط لتثبيت الادعاء بأن الانسان يتغير سلبيا حين يهاجر.. بغض النظر عن مستواه العلمي والاجتماعي، وهو بهذا يتبنى اعتقادات ساذجة يتبناها البسطاء وقليلي الخبرة في نظرتهم للغربة والمغتربين، حيث يعتقدون ان كل المغتربين اغنياء ومترفون.. وان كل من يعيش في الخارج «الغرب» سيكون بالنتيجة منحرفا او منحلا.. بلا قيم او مبادئ وسيعود سكيرا لا هم له سوى النساء والتسكع.. وهذا ما اكدته ورسخته الدراما العراقية التي انتجت بعد 2003، حيث قدمت العراقيين العائدين من الخارج بصورة سلبية جدا، فهم اما منحرفون او اغنياء متكبرون ومتغطرسون، او عادوا ليستولوا على المناصب والاموال.. وفي ابسط الاحوال بلا اخلاق!.. ولم يخطر ببال المؤلفين ذلك العدد الهائل من الاطباء والمهندسين والفنانين وغيرهم من العراقيين الناجحين الذين عاشوا، او مازالوا، يعيشون في الخارج. لقد بعث هذا المسلسل برسائل محرّفة ومشوّهة عن الواقع العراقي والانسان العراقي في الداخل والخارج.. لم تلتقطها الجهة المنتجة، قناة البغدادية، وهي قناة مرموقة، ولا المخرج المبدع حسن حسني.. ولا كوكبة الفنانين الذين انجزوا العمل.. باقتدار!.. بل التقطها المشاهد العراقي والعربي.. وباقتدار ايضا.