كسر الوهم في أفلام سينمائية

حيلة الأسلوب السينمائي في تغيير نمطية التلقي والمشاهدة

بوستر فيلم «اللاهث»
TT

الدراما والرواية قائمتان على مبدأ الوهم، الذي هو انعكاس للواقع، فالمتلقي يعلم تماما أن ما يشاهده ليس سوى قصة متخيلة، ولكنه (أي العمل) لا يُصرِّح بهذا الوهم لكي لا يكسر الاتفاق الضمني بينه وبين المُشاهد. إننا نتأثر بهذا الوهم، ونتعايش مع شخصياته، لأنه يمثِّل انعكاسا تخيليا لواقعنا، فتشتدُّ علاقتنا به، ونتفاعل معه على كافة المستويات، وكأننا ننسى ـ أو نتناسى ـ أن ما نشاهده أو نقرأه ليس حقيقيا! وهنا بالضبط تكمن أهمية الوهم في الدراما والرواية. فبدونه تنكشف هشاشة العلاقة بين العمل والمتلقي، وكسرُه كفيلٌ بأن يسلب العاطفة التي يُفعِّلها العمل ليكتسبها المتلقي، ومن هنا نشأت نظرية المسرحي العظيم برتولت بريخت في « المسرح الملحمي». فالمسرحية ـ في رأيه ـ يجب أن تكون خالية من العاطفة، قريبة لأن تصبح شبيهة بدراسة عملية ينخرط المُشـاهد في التعمق فيها بعيدا عن أشراك العاطفـة، قريبا من الموضوعية المحايدة. ولهذا كان بريخت حريصا ـ في أكثر من حالة ـ على إزالة العلاقة بين المشاهد والممثل، وهي علاقة قائمة على أن الممثل مدَّع لهذه الشخصية، وأنه وهم للواقع، ولذلك ففي إخراجه لمسرحية سوفوكليس ( أنتيغون ) أبقى الممثلين على خشبة المسرح عندما لا يكونون ممثلين. هذه العملية تسمى في المسرح بعملية «هدم الجدار الرابع»، حيث أن هنالك ثلاثة جدران تحيط بالخشبـة المسرحية، والرابع هو الجـدار الوهمي الذي يفصل بين الممثلين والجمهور، وتندرج هذه الطريقة لدى بريخت تحت ما يسميه بـ «وسـائل التغريب» أو «الأثر المُـغرَّب». وعملية هدم الجدار الرابع في المسرح منتشرة عند غير بريخت أيضا، قبله أو بعده على حد سواء، فنراها في مسرحية لويجي بيراندللو «ست شخصيات تبحث عن مؤلف»، حيث يوجد على المسرح ست شخصيات تزعم أنها في مسرحية بلا مؤلف يوجهها، وكذلك في مسرحية صامويل بيكيت «في انتظار غودو»، وكذلك من قبل في مسرحية غوغول «المفتش العام»، بل ان أفراد مجموعة «المسرح الحي» الأميركية بالغوا في اللعب على وتر الوهم والواقع حتى أصبح الممثلون ينخرطون في نقاشات واقعية مع الجمهور قد تتحول إلى عراكات في بعض الأحيان كما يشير مارتن إسلن في «تشريح الدراما».

وفي الرواية توجد هذه الميزة، ولكن بشكل أقل، وهي تندرج تحت ما أسماه إرفنج جوفمان بـ «كسر الإطار»، وتنتشر خصوصا عند أرباب توجهات ما بعد الحداثة الذين ينبذون الالتزام المقيت بوهمية الواقعية. وإذا علمنا بمدى الإعجاب الكبير الذي يُكنُّه المخرج الرائد في الموجة الفرنسية الحديثة جان لوك غودار للمسرحي بريخت، وكيف أنه تأثر بفكرة مسرحه الملحمي، وعلاقة الوهم بالعاطفة، فإننا حينها لا نستغرب أن ينتهج هذا النهج في فيلمه «اللاهث» الذي يُعد باكورة الموجة الفرنسية الحديثة، حينما جعل الشخصية الرئيسية تقوم بمحادثة الجمهور بشكل تلقائي محطِّمة وهم الواقع الدرامي. كما سبق وأن أشرت؛ فإن الوهم في الدراما أو الأدب هو من أهمِّ الركائز الفنية في العمل، فالنظرية أن القارئ أو المشاهد يعلم تماما أن ما يشاهده ليس سوى خيال محض، ومجرد وهم للواقع الحقيقي، ولكنه رغم ذلك يتورط في هذا الوهم ويتعايش معه لحظة بلحظة بطريقة أو بأخرى، ولذا فهل من السليم فنيا أن يُكسر هذا الوهم بتطفُّـل الواقع؟ الجواب يستوجب سؤالا آخر: لماذا كسر المبدع هذا الوهم أصلا، ما هي دوافعه وتوقعاته؟ أحيانا، يكون كسر الوهم رغبة في عمل ردة فعل عكسية لدى المتلقي، هي ما يقصدها بريخت في مبدئه «الأثر المغرب»، حيث يتصاعد الشعور في لحظة معينة إلى الحد الأعلى ثم يتم كبحه بطريقة مباشرة، فتكون مثل دلو ماء بـارد ألقي على المشاهد المستغرق في وهمه. وأحيانا يكون الغرض منها وضع المشاهد في صورة الحقيقة، وجعله أشبه ما يكون بالمراقب بدلا من المستمتع، فهو يشاهد الوهم يختلط بالواقع، ويتحوَّل العمل إلى أشبه ما يكون بدراسة عملية، حيث يتورط المشاهد في تحليلها وتقييمها بعيدا عن الخداع بوهمها. وهنا يتحول العمل ليكون معالجة للواقع، بلا وهم، ويفقد على إثرها جزءاً من انتمائه الفني الذي يقوم على الوهم كركيزة أساسية في التعامل مع المشاهد. ولكن هذه العملية من أخطر العمليات التي قد يقوم بها مبدع العمل، سواء في الرواية أو المسرح أو السينما. فقد أشرت سابقا إلى أن جوفمان أدرجها تحت ما أسماه بمبدأ «كسر الإطار»، وهو يقصد به حينما يتم تجاوز قاعدة نمطية تحكم العمل الفني، وبالتالي فإن عدم إحكامها قد يسبب خللا كبيرا في بنية العمل ككل، لأنها ستكون شرخا في جدار متماسك. ولذا فإن استخدامها يستوجب تغييرا كاملا في بنية العمل، يسمح للكاتب والمخرج بإدخالها دون أن تكون بلا معنى أو بلا فائدة. ففي فيلم «اللاهث» استخدمها غودار ببراعة شديدة قلَّما تجد مثلها، فالفيلم يُعدُّ تجربة فريدة على أصعدة كثيرة، الإخراج والتمثيل والتصوير والأهم المونتاج، فهو في بنيته الظاهرية يبدو تجريبيا تسجيليا، وليس حكائيا تقليديا، وبالتالي عندما هدم غودار الوهم بجعل الممثل يتحدث مع الجمهور ساهم بذكاء في بنية العمل، ولذا لم تكن دخيلة أو بلا معنى، بل كان استخدامها ذكيا ومحسوبا. أيضا قد تستخدم هذه الحركة في أفلام كوميديا العبثية، التي يتلاشى فيها منطق الأحداث ويُستبدل بمنطق العبث، كما فعل كاتب ومخرج الكوميديا الأميركية ميل بروكس في فيلمه « السروج المتوهجة» – Blazing Saddles 1974. ومن أهم ما يميز أفلام الكوميديا العبثية أنها غير ملتزمة بقوانين الوهم، فهي تغذي الخروج الفاضح على النص، وتحضُّ شخصيات الفيلم على التعدي على الحدود، والمنطق، وبالتالي فإن عملية كسر الوهم في مثل هذه الأفلام تأتي متوافقة مع بنية العمل وجوهره، واستخدامها بطريقة سليمة يُعـدُّ أمرا إيجابيا. وهو ما قام به ميل بروكس، فقد قدم لنا فيلما بمعايير عبثية سريالية، حيث يختلط الحاضر بالماضي بطريقة فاضحة، ويتزاوج المعقول واللامعقول في مجموعة مشاهد كوميدية تعتمد على رسم صورة عبثية للشخصيات والأحداث.. [email protected]