ما التضحية التي يمكن تقديمها من أجل الحرب على الإرهاب؟

إدانة العمل المخابراتي بأميركا في فيلم «كتلة من الأكاذيب»

مشهد من الفيلم
TT

حينما تم عرض فيلم « كتلة من الأكاذيب» لأول مرة في منطقة الخليج العربي في الليلة الختامية لمهرجان الشرق الاوسط نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي كان أحد المنتجين لهذا العمل قد سافر من أميركا حتى أبوظبي ليلقي قبل بداية عرض الفيلم كلمة بدت بلغة اعتذارية وكأنها تحكي شيئا من هدف الفيلم حسب وجهة نظره، حيث السياسة الاميركية في منطقة الشرق الاوسط والصورة الهوليوودية المنمطة عن المنطقة بحاجة برأيه لمثل هذه اللغة الاعتذارية وهذا التبرير في اختيار موضوع الفيلم. في الحقيقة لا أذهب كثيرا الى ان مخرج العمل ريدلي سكوت مشغول بمثل هذه القضايا بقدر ما أراه مخرجا مقتدرا ذا اسلوب فريد في حكاية قصصه بلغة سينمائية عالية، ومتميزا بقدرته الجميلة على التنويع في افلامه بالرغم من انه بالفعل قد لامس قضايا من هذا النوع كما في فيلمه «سقوط الصقر الاسود» Black Hawk Down و«مملكة السماء» Kingdom of Heaven. وبقدر ما يقدم نفسه عبر أفلامه كمكرس لقيم التسامح والتعايش واحترام ثقافة الحضارات المختلفة، بقدر ما يبدو بعيدا عن ابراز جانب من اليسارية المعارضة او الليبرالية الحادة ليتبقى لديه الهدف الاهم برأيي وهو اخراج فيلم ممتع بحكاية مثيرة وتقنية بصرية فذة. لنتذكر ان ريدلي سكوت هو مخرج احد افضل افلام الخيال العلمي عام 1982 Blade Runner مع هاريسون فورد ومخرج الجزء الاول من سلسلة الرعب الشهيرة والجيدة Alien عام 1978مع سيغموني ويفر وهو من قدم ايضا فيلمه الرائع بصبغته الوجودية Thelma & Louise عام 1991 مع سوزان سراندون وجينا ديفيز ثم عدة افلام مختلفة مثل الملحمة الاغريقية للقائد ماكسيموس في Gladiator في اول لقاءاته مع رسل كرو، والملحمة التاريخية لجذور الصراع الاسلامي الصليبي في Kingdom of Heaven عام 2005 وفيلم الدراما الرومانسية في اجتماعه الثاني مع رسل كرو عام 2006A Good Year ثم فيلمه الرائع العام الماضي في عالم المخدرات والجريمة مع دينزل واشنطن في American Gangster. وبعض أفلام الحركة والاثارة مما يقدم لنا ريدلي سكوت نفسه وسط هذا التنوع كمخرج حكاية لا ينزع كثيرا الى التحليل والتعمق الفكري او الابعاد الفلسفية، وانما تستهويه هذه القصص بلعبتها المثيرة وقدرته على تقديمها بقدر كبير من الاتقان وربما هذا الشيء تحديدا هو ما وجده في قصة العميل روجر فاريس التي كتبها الصحفي والكاتب ديفيد اغناتيوس ـ تنشر مقالاته بشكل دوري وخاص في جريدة «الشرق الاوسط» ـ التي حولها السيناريست وليام مونهان ـ الحائز اوسكار افضل سيناريو مقتبس لفيلم سكورسيزي الراحلون ـ الى نص ينبض بالحركة والايقاع السريع كافضل ما ينتظره ريدلي سكوت. ويحكي الفيلم قصة روجر فيريس عميل المخابرات الاميركية الذي يتكفل بمهمة ملاحقة المنظمات الارهابية في الشرق الأوسط، وتحديدا حينما يحاول الايقاع بشخصية رئيسية تترأس احدى هذه المنظمات في الاردن باحثا عن تعاون مهم مع المخابرات الاردنية. وستبدو هذه الشخصية غاية في الاخلاص الوطني وتنفيذ خطة هذا العمل رغم مخاطره الكبرى بالرغم من امتلاكها قدرا من الحس الانساني والعاطفي والذكاء الاجتماعي، إذ يستطيع معرفة تقاليد المجتمع العربي ويتعايش معها باحترام ويتمكن من اجادة عدد من العبارات العربية للمخاطبة ولا يحاول مقاومة عاطفته عندما يتعرف على فتاة ايرانية تعمل في مستشفى حكومي. ويقوم بدور هذه الشخصية الفريدة واللافتة نجم السنوت الاخيرة ليوناردو دجي كابريو الذي بدا في افلامه أخيرا يبذل جهدا كبيرا في أداء شخصيات ثرية ومفعمة بكثير من الحركة والمغامرة كما في افلامه الثلاثة الاخيرة «الطيار» و«الراحلون» و«الماس الدامي»، وهو الممثل الذي راهن عليه المخرج مارتن سكورسيزي في كسب الرهان منذ اول عمل مشترك معه في «عصابات نيوورك» ثم « الطيار والراحلون» الى فيلمين قادمين لعامي 2009 و2010 مع سكورسيزي الذي بدا وكأنه يخلف الممثل الكبير روبيرت دينيرو في التعاون المشترك مع سكورسيزي. ولنتذكر ان كابريو كان قد حصل على اول ترشيحاته الاوسكارية كممثل رئيسي في فيلم «الطيار» واذا ما سار على نهجه الجيد هذا في الاختيار فهو لن يكون بعيدا عن اول اوسكار خلال السنوات القريبة. الشخصية الاخرى في الفيلم التي تمثل فكرة العنجهية الاميركية والاتجاه نحو الهدف والغائية دون أي اعتبارات اخرى هي في شخصية أيد هوفمان أحد مديري العمليات في المخابرات الاميركية والتي اداها رسل كرو في تعاونه الرابع مع ريدلي سكوت، حيث يخلق هذا التنافر بين الشخصيتين إشكالية اخلاقية تتعلق بمدى التضحية وكارثية الوسيلة التي يمكن ان نقدمها من اجل الحرب على الارهاب، وإشكالية سياسية حول مستوى الاحترام والتقدير الذي يجب ان تقدمه اميركا لحلفائها في الحرب على الارهاب بعيدا عن فكرة التفوق والقدرة العسكرية والمخابراتية. وهذا سيظهر جليا في التعامل مع المخابرات الأردنية ورئيسها هاني أو الباشا الذي ادى دوره بطريقة لافتة جدا الممثل البريطاني مارك سترونغ (شارك سابقا في فيلم مثير للجدل هو الآخر سيريانا). والفيلم في النهاية ينحى نحو ادانة العمل المخابراتي في اميركا وتخبطه في التعامل مع الاحداث او حتى الدقة في تحديد حجم الاهداف وأهميتها التي يجب ان تصل اليها وكيف تصل. لكنه في الاطار العام يأتي كفيلم حركة تشويقي من النوع الذي يجيده سكوت كثيرا، حيث المطاردات والتفجيرات المتناثرة وحروب المدن والذي شاهد سكوت في احد افضل حالاته مع فيلم «سقوط الصقر الاسود» حينما قدم احد افضل مشاهد حرب المدن في السينما ورشح حينها لاوسكار افضل مخرج، ولن ينتظر اقل من ذلك بالتأكيد. وربما جزء من اعجاب الكثير بريدلي سكوت كمخرج هو هذا الاتقان البصري والإثارة السلسة في رواية القصة وعدم التعمق في تقديم شخصيات الفيلم وافكاره.

[email protected]