الزمن.. صيرورة غامضة في الحدث السينمائي

تجارب كثيرة استطاعت السيطرة عليه بطريقة أو أخرى

TT

ما هو الزمن؟ هذا السؤال فلسفي بالدرجة الأولى، فالزمن من أعقد المفاهيم التي لم تُعرَّف، ولن تُعرَّف، فهو يُفسَّـر بكثير من التفسيرات الفيزيائية أو الفلسفية الهلامية.. نحن نشعر به ولكننا لا نستطيع تحديد ماهيَّته. ولكن ما يهمنا هو الزمن في مفهومه العرفي بين الناس، فهو يُـعتبر اللحظة المتكررة التي تتمدد فيها الحياة، فإذا توقف الزمن توقفت الحياة، لأن الحيـاة مرتبطة بالتغيير، وهذا التغيير المتكرر يرتبط بدوره بالزمن، ودونه لا يمكن أن يحـدث، ولذا فإن المعادلة هي: إنْ توقف الزمـن يجب أن يتوقف التغيير، وبدون هذا التغيير لا توجد حيـاة. أما في السينما فيمتاز الزمن بذات الغموض ـ والوضوح على حد سواء ـ كما هو في الحياة الواقعية. ولكننا نستطيع ـ إذا ابتعدنا عن الفلسفة ـ أن نقسِّم الزمن في السينما بشكل تقريبي إلى نوعين: الأول هو الزمن الذي يسير وفقه تسلسل الأحداث، وهو الوقت، الذي نشير إليه بكلمة «متى» لتحديد حال حدوثه و«كم» لتحديد كمِّـيَّته، فنسأل: متى حدث الفعل، وفي أي ساعة، وكم مدة حدوثه، وكم سيستغرق. بمعنى آخر هو الزمن التقليدي إن جاز التعبير. الزمن الآخر في السينما هو الزمن المتمدد، الذي نستغرقه في وصف القصة بأحداثها وشخصياتها. ففي الرواية، مثلا، يتمدد الزمن بلا توقف، فهو يستمر في وصف اللحظة إلى ما لا نهاية، يستطيع أن يشرح كيف شعرت الشخصية الأولى في اللحظة، ثم ينتقل ليشرح كيف شعرت الشخصية الثانية في ذات اللحظة، ثم يتعمق في وصف اللحظة ماديا عبر تكثيف الصور الوصفية للمكان والأوجه والتعبيرات، إنه متمدد لا يتوقف. أما في السينما فالزمن محدود التمدد للغاية، لأنك لا تستطيع تكرار الصورة لتشرح جميع ما سبق، هي صورة محمَّلة بكل تلك الصور التي تستغرق الرواية في وصفها، إلا أنها تمر دفعة واحدة، لمرة واحدة. المخرج السوفييتي أندريه تاركوفيسكي، الذي يُعدُّ من أهم السينمائيين الذين يعتمدون اللغة الشاعرية المتشظِّية في أفلامه، حاول في كثير من أعماله القبض على تلك «اللحظة»، عبر الصورة التي تجعل «اللحظة الزمنية» تتداعى تباعا. ولهذا تحدث تاركوفيسكي بذاته في كتابه (النحت في الزمن) عن «الزمن المطبوع»، وهو يقصد أن السينما حينما تم اختراعها أول مرة كانت عبارة عن تسجيل للزمن في أشرطة مفرغة، تستطيع حفظها إلى الأبد، ولذا أصبح الزمن مطبوعا فيها. ولهذا فالمخرج – نظريا ـ يعتبر «ناحتا في الزمن». وفي فيلمه (Stalker ـ المطارد) يروي الكاتب والسيناريست الإيطالي تونينو غوييرا ـ كما الذي ترجمه علي كامل ـ أن تاركوفيسكي كان يسير معه بجانب المخرج الآخر مايكل أنجلو أنتنيوني في مواقع محتملة للتصوير في أوزباكستان إذ يعتزم أنتنيوني إخراج أحد أفلامه، وكان تاركوفيسكي يحمل معه كاميرا البولورويد، وعندما مروا بجانب ثلاثة شيوخ مسلمين التقط تاركوفيسكي صورة وأعطاها لأحدهم، فنظر الشيخ بدهشة، ثم تساءل بفطنة فطرية: لماذا توقف الزمن؟

يذكر غوييرا أن تاركوفيسكي أخذ يفكر كثيرا بتلك الكلمة، وفكَّر بإمكانية إيقاف الزمن، ولو عبر الكاميرا. لا أعلم إن كانت الفيزياء تجيز تسمية عملية التصوير «إيقافا» أو «طبعا» للزمن، ولكن المقصود أن الصورة استطاعت أن «تقبض» على اللحظة، إنها لا تتحرك، وبالتالي هي لا تتغير، فالتغيير مرتبط بالزمن، إذا فهي خارج الزمن، في منطقة لازمنية. إنها فكرة ساحرة.. ولكنها ليست عملية. لأنك لا تستطيع أن تقدم في السينما مجموعة من الصور الثابتة، يجب أن تقبض على اللحظة متماشية مع حركية الصورة، وهنا يكمن التناقض الذي لا يمكن حله. ولأجل ذلك تحدَّث الروائي والمنظِّر والسينمائي الشهير أمبرتو إيكو عن السينما وعلاقتها بالرواية حينما أشار إلى أن النص الروائي يتولد منه «عبقريات تصويرية»، لأنها متكررة، وصفية، بشكل مكثَّف، تجعل من اللحظة زمنا كاملا من التعابير والأشكال والصور. أما في السينما، فاللحظة تأتي في صورة واحدة، لا يمكن الاستمرار في إعادتها، أو تثبيتها. ولهذا كان ناقما على تحويل روايته الشهيرة «اسم الوردة» إلى فيلم من بطولة شون كونري في عام 1986. ولكن هذا لا يمنعنا من إثبات أن هنالك كثيرا من التجارب التي استطاعت السيطرة بطريقة أو بأخرى على سيرورة الزمن. فتاركوفيسكي نفسه تحدث أيضا في كتابه (النحت في الزمن) عن ارتباط الزمن بالذاكرة، ثم عرَّج على حديث الروائي مارسيل بروست عن تشييد (صرح ضخم للذكريات)، وبالتالي فإن التداعي في الذكريات يكون شبيها بالسيطرة على الزمن. ولذا نشاهد تجربته المميزة في فيلمه (Nostalgia ـ الحنين) الذي يوظِّف فيه أدواته السينمائية في محاولة القبض على اللحظة وجعلها تمتد معه بلا توقف عن طريق الذاكرة، فهو فيلم يتحدث عن الحنين للماضي، والنوستالجيا، وبالتالي يبدو الزمن رابطا بين ذلك الماضي والحاضر، بين الزمن والذاكرة، ولذا فإنه يكثِّف الصـورة الثابتة التي تكرر نفسها عن طريق الجمـود، والتراخي، والتـداعي، وكأنها تنطلق في عمق فراغـات الزمن، وتختبئ هناك، مما يجعلها في مكـان وسط بين الحـاضر والماضي، بين الذاكـرة والزمن. ولهذا لم يكن الفيلم مفهوما للكثيرين في لغته السينمائية المتشظية. ومن هذه التجارب السينما التي تكثِّف الصورة في عمق المشهد، فيكون المشهد ككل عبارة عن امتداد متواصل لصور تسجل أدق التفاعلات التي تحدث فيه، وكأن الزمن في سيره يتحـوَّل إلى مجموعة من الصور التي تتداعى تبـاعا. ففي فيلم (Three Colors : Blue ـ ثلاثة ألوان: الأزرق) ـ مثلا ـ يتعمق العبقري كايسلوفيسكي في تكثيف الصورة المشهدية، حيث تستمر الصورة طويلا في المشهد الواحد بلا مونتاج وبلا حوار، إنها مزاوجة بين الصورة والزمن، ولذا فإن اللحظة التي تعايشها جولي أثناء السباحة في الصالة المغلقة مع الموسيقى التي تفعِّل شعور الوحدة والتوتر والترقب؛ تتمدَّد، وتتوسع، وتجعل من الزمن في المشهد امتدادا متوازيا من الصور المتداعية. المونتاج أيضا يُعدُّ أداة للتحكم في التعامل مع الزمن في السينما، فهو يتنقل بخفة ورشاقة بين المواقع بلا تقيُّد بالزمن الفعلي، فالعلاقة بين الزمان والمكان في السينما علاقة مونتاجية، يتحكم في توجيهها المونتاج، فقد نُشاهد لقطة لرجل يصعد الدرج، وننتقل عبر المونتاج إلى مكان آخر لنشاهد رجلا ينزل من ذات الدرج في ذات اللحظة، ثم تندمج الصورتان مع بعضهما حينما يلتقيان معا، وبالتالي تنطوي أبعاد المكان والزمان وتندمج في وحدة مونتاجية سينمائية. لهذا فإن عملية المونتاج مهمة بشكل كبير، ليس لأنها فقط تكوِّن أجزاء الفيلم المتفرقة في قطعة كاملة متوازنة؛ وإنما أيضا لأنها أداة المخرج في التحكم بالزمن السينمائي، حيث يستطيع التلاعب بالزمن عن طريقها، كما فعل المخرج الأرميني أتوم أغويان في فيلم The Sweet Hereafter أو المكسيكي أليخاندرو غونزاليز في فيلم 21 Grams.

[email protected]