هوية المكان كجزء من تكوين المشهد

المخرج السينمائي يتحكم تماما في تحديده عكس نظيره المسرحي

لقطة الغرفة الافتتاحية من فيلم Le Samourai
TT

في بدايات السينما، كانت الاستوديوهات في الغالب توفِّر مكان التصوير للفيلم، بتقنيات وديكورات عالية المستوى وفق معايير ذلك الوقت بالطبع، خارج الاستوديو كان العالم الواقعي الحقيقي، بقيمته الذاتية وديكوراته الطبيعية. لكن السؤال الذي كان يتبادر إلى أذهان المنتجين وبعض المخرجين: لماذا أتكلف عناء الخروج، بينما أستطيع صنع صورة للخارج؟ ومن هذه الفلسفة انطلق كثير من السينمات في العالم، خصوصا السينما الهوليودية الأكثر غزارة وشهرة واستقطابا، على الرغم من وجود استثناءات كثيرة، لكن فلسفة الاستوديو ظلَّت قوية، على الأقل في المشاهد القابلة للتصوير الداخلي. ظهرت على مر السنوات ثورات عديدة ضد نظام الاستوديو، لا يهمنا ما هي، فتلك تؤدي بنا إلى متاهات تاريخية، بقدر ما يهمنا لماذا، حيث تصل بنا إلى الحديث عن هوية المكان، فلماذا الثورة على نظام الاستوديو الذي يوفر كثيرا من العناء والمال؟ هنالك وجهات نظر عديدة. من أهمها أولا ما أتت به الواقعية الإيطالية حول فلسفتها تجاه المكان. فمع فيلم المخرج العظيم فيتوريو دي سيكا وكاتب السينما الواقعية سيزار زافاتيني The Bicycle Thief هوية المكان تكتسب بُـعدا آخر، حيث لا يمكن أن يتم الفيلم بدونها، ففي عمق المكان تكمن الحقيقة التي يبحث الفيلم عنها ليصورها لنا بلا تعديل: الفقر، والمعاناة، والحاجة، والانكسار، والخضوع، معالم راسخة في عمق المكان الذي يقدمه الفيلم، وبدونه لا تصل الرسالة. ونفس الكلام ينطبق على تحفته Umberto D حينما يصبح المكان بجانب شخصية الفيلم الرئيسية أهم ما في الفيلم على الإطلاق. ولك أن تقتبس أمثلة أخرى من سينما روسيليني رائد الواقعية الإيطالية أيضا وكذلك فيسكونتي أو أنتنيوني أو غيرهم. وكذلك ممن انتهجوا هذا النهج. المكان هنا يمثِّل واجهة للحقيقة، الاستوديو المختلق في صورته لا يمكن أن ينوب عنه، فيجب أن نخترق الشوارع والحارات والبيوت التي تعبق بالحقائق، والتي تتواجد فيها كجزء لا يتجزأ منها، وبالتالي فالمكـان هنا يجب أن يكون حقيقيا، حتى يصبح الفيلم في ذاته قريبا من الحقيقة! كذلك فإن الموجة الفرنسية الحديثة بقيادة تروفو وغودار وجان بيير ميلفيل وغيرهم، جاءت لتحطم قواعد كثيرة في عالم السينما مستفيدة من أدواتها السينمائية، ومن أهم ما حرصت عليه هو تكوين هوية واضحة للمكان. فالمكان لدى تروفو في فيلم The 400 Blows يصبح ركيزة أساسية في تكوين الرسالة التي يريد أن يصل بها الفيلم، إن شخصية الطفل تتقوقع في محيطها، المسكن والمدرسة، تنكمش إلى حد الاختناق، لكنها عندما تخرج يحتضنها المكان لتتوسع إلى درجة تكاد تفقد فيها هويتها، ففي الخارج ينفصل عن ذاته المسحوقة، ويصبح أكثر تحررا وانطلاقا. أما في سينما العبقري جان بيير ميلفيل، فالمكان يتميز بأهمية بالغة، ففي تحفته Le Samourai يبتدئ الفيلم بلقطة لغرفة القاتل، سرير أمام نافذتين طويلتين بينهما قفص صغير، الجدران المتآكلة الصبغة توحي بالقدم والتهالك، ثمة نوع من الكآبة والسوداوية في الصورة، تعكس بجمودها الخواء الذاتي الذي تمر به الشخصية، ننغمس ـ إذ نعايشها في الدقائق الأولى ـ في تأمل مطلق وصمت مخيِّم، يعكس بدلالته حقيقتها. وفي رائعته الأخرى Army of Shadows يتوسع المكان ليشمل الصورة القاسية التي تعكس قسوة الحرب والتضحية والمبادئ والمشاعر، الشخصيات الثلاث تجتمع في بيت قديم متهدم لقتل الخائن، لكن الجدران أرق من إطلاق الرصاص، فيتم خنقه بصمت، المكان المهجور المتهاوي يكشف عمق الدمار الذي تصل إليه حال الحرب، والظلمة القاتمة تعكس الضياع في عالم معقد. كثير من المخرجين على استعداد تام لبذل الجهد والمال الكافي لبناء أماكن تصويرهم والبحث عنها، فالمخرج اليوناني ثيودور أنجلوبليس مثلا أصر حال إخراجه لرائعته Ulysses" Gaze على أن يتم التصوير في المكان الأصلي في سراييفو رغم أن الحرب كانت دائرة حينها، مما جعله يسعى لمدة عامين كاملين لاستخلاص التصريح، لكن بلا فائدة، وعندما سئل لماذا يجازف بحياته وحياة العاملين معه أجاب، كما ترجم أمين صالح عن كتاب أندرو هورتون: «أعتقد أن شيئا استثنائيا وغير اعتيادي يحدث في الموقع، في المكان الواقعي، وأنا لا أعني فقط القدرة على تصوير الديكور أو المنظر الطبيعي، فعندما أكون في المكان الذي أعين فيه الفيلم تكون كل حواسي الخمس متأهبة وفعالة، أصبح أكثر وعيا، وبالتالي أشعر أنني أعيش التجارب التي أريد أن أصورها».

ونفس الكلام ينطبق على تاركوفيسكي الذي ظلَّ يبحث لمدة طويلة عن مكان ملائم للتصوير في فيلمه The Mirror، حتى أنه اضطر إلى إعادة بناء الكوخ من جديد، مما كلَّفه مزيدا من الجهد والمال. المكان في هذه الحالة يمتلك روحا، هو ليس مجرَّد جماد، بل يكتسب أثناء التصوير ما يشبه الروح، فتقليده سيكون شبيها بوضع صورة للممثل دون حضوره. وعندما يمتلك المكان هذه الروح الفنية، إن جاز التعبير، يجد المخرج نفسه مجبرا على استحضارها بأي طريقة كانت، لا بدَّ أن تكون حاضرة في عمق المشهد، وإلا فإن الفيلم سيكون ناقصا، ومشوها. ولهذا السبب ربما يَعتبر الإيطالي المثير للجدل بيير باولو بازوليني أن المكان جزء لا يتجزأ من شاعرية الفيلم، فحضور المكان في أدق صوره ـ أيا كان شكله وأياًّ بلغت وحشيته وغرابته ـ يمثِّل الصيغة الكمالية للعمل في بنائه الشاعري المتشظي. بقي أن أشير إلى نقطة مهمة في تكوين هوية المكان؛ وهي أن المخرج في السينما هو من يتحكم في عملية تحديد المكان تحكما كليا.. ففي المسرح يكون المكان الذي هو خشبة المسرح مكشوفا لكافة المشاهدين، قد يضطر مخرج المسرحية إلى اللجوء إلى خدع تقنية كي يحجب جزءاً من المسرح، لكن في السينما، المخرج يتحكم تماما في تحديد المكان الذي يريد أن يركز عليه، فالكاميرا لدى مخرج السينما ـ كما أشار أورسن ويلز ـ هي العين التي يرى من خلالها، والتي يجبرنا أن نرى نحن أيضا من خلالها، لا نستطيع أن نفضح أبعاد المكان، وإنما ما يتسنى لنا مشاهدته فقط، ومن هنا فالمخرج يتحكم تحكما كليا في تحديد المكان. ولهذا يشير مارتن إسلن في كتابه تشريح الدراما إلى أن المشاهد في المسرح «يؤدي عمل المخرج الذي يقوم به لأجله في السينما». [email protected]