ما الذي أراد تاركوفسكي أن يقوله لكوبريك؟

مخرجان سينمائيان في رؤيتين مختلفتين

مشهد من فيلم سولاريس لتاركوفسكي
TT

أصبح من باب الروتين أن يطلق على فيلم تاركوفسكي(سولاريس ـ 1972) بأنه الفيلم الذي رد به على فيلم كوبريك(أوديسا الفضاء2001 ـ 1968)، حيث ان كلاهما يحتوى على رحلة فضائية وستتحول هذه الرحلة إلى مواجهة مع محيط خارجي وكائنات خارجية تتصف بالذكاء.

عندما عرض فيلم سولاريس في الغرب على أساس أنه الإجابة الروسية لفيلم كوبريك (2001)، بدا واضحا للمشاهدين خاصة الذين أعجبهم فيلم 2001 بأن تاركوفسكي وستانسلوليم (مؤلف رواية سولاريس وفي الوقت نفسه النص الذي قام عليه الفيلم) يحفران طريقا جديدا لهما مختلفاً تماما عن الاتجاه الذي مشى فيه كل من كوبريك وكليرك صاحب النص الذي قام عليه فيلم اوديسا الفضاء.

ومع غرق فيلم تاركوفسكي بالمعاني الجوهرية، اعتبر فيلم كوبريك مفتقدا لحبكة أو عقدة رئيسية الأمر الذي يجعله عصيا على الفهم. وينطبق هذا أيضا على مشاهد الفيلم النهائية التي فسرت أحيانا ضمن فلسفة نيتشه.

في كلا الفيلمين هناك طاقم. وفي فيلم كوبريك أحد مهمات الطاقم هو الوصول إلى المحطة(كلافيس) التي تحدث فيها أمور غريبة. وأيضا كانت مهمة كريس كلفن (بطل فيلم تاركوفسكي) هي الوصول إلى المحطة (سولاريس) التي تحدث فيها أمور غريبة هي الأخرى.

وقبل الخوض في شخصيات كلا الفيلمين فإن كوبريك يفتتح فيلمه بلقطة لا تنسى عن فجر الإنسانية، وفي الوقت نفسه يشير إلى أن هناك شيئا سابقاً للحياة البشرية. وتاركوفسكي يقابل هذه اللقطة في افتتاحية فيلمه بلقطة جميلة للحياة الطبيعية والرعوية، بمعنى أن الإنسان لا بد أن يعود إلى مصدره...إلى أساسه...إلى أمه الأرض.

هذه اللقطة بالذات تختصر الكثير، فإذا كان كوبريك يعتقد بوجود مصدر سابق للإنسان ـ بجدارة في بداية الفيلم ـ ويعتقد بوجود عوالم لامتناهية من غير أن يوضح ما الذي يقصده بالعوالم اللامتناهية، فإن تاركوفسكي يؤكد على ان الأرض هي أمنا جميعا، هي المصدر وهي العالم اللامتناهي، كما ان عودة البطل كريس كلفن بطل سولاريس في نهاية الفيلم إلى أمه الأرض ليس إلا تأكيدا على العودة إلى المصدر.

وإذا كانت دوافع وغايات شخصيات كوبريك غير معروفة للمشاهد، فإن حوافز شخصيات تاركوفسكي هي التي تعطي الفيلم قوت،ه مؤكدة على النزعة الفردية البشرية للوصول إلى الحلول. وإذا كان فيلم كوبريك يشكل انهماكا غريبا لمعرفة تأثير العناصر الخارجية، فإن شخصيات تاركوفسكي هي التي ترفض فكرة المؤثرات الخارجية، بل تدفعنا للتوجه إلى دواخلنا والسؤال بعمق. وهنا ننتقل إلى طفرة أخرى في فيلم كوبريك وهي معالجته لقضية الاصطدام مع العناصر الخارجية من قبل الإنسان، وكان الاصطدام الأول مع الآلة. ولكن تاركوفسكي يرد بقوة على هذا المنحى عند كوبريك، فتاركوفسكي يعتقد بوجود حدود للمعرفة البشرية، وان المعرفة حق عندما تستند على الأخلاق، وان الإنسان هو الذي يجعل العلم أخلاقيا أو لا أخلاقيا، ذاكرا مثالا قويا على لسان أحد شخصيات الفيلم ـ هيروشيما. تاركوفسكي يرفض أن تكون الآلة قد تحركت من تلقاء نفسها وقامت بعمل شرير في عمل كوبريك وهذا يدفعنا إلى القول بأنه إذا كان فيلم كوبريك قائماً على التصورات أو حتى على التنبؤات، فإن تاركوفسكي يعيدنا بكل لقطة من فيلمه القائم على الخيال العلمي إلى الواقع أكثر وأكثر.

إن التصور عند تاركوفسكي قائم على وجود محيط للمحطة سولاريس إذا اصطدم بوعي الإنسان وتفاعل معه فإنه عندها سيوجد شخصيات ذات علاقة مسيسة قوية بحياته الماضية. وفي الوقت نفسه لم يقل تاركوفسكي إن هذه الشخصيات وهمية لا وجود لها حقيقة، لكنها مرتبطة وبقوة بوجودها الحسي والجسدي، بعقل وطريقة تفكير الإنسان. ونحن كمشاهدين نستطيع أن نتناسى فكرة وجود هذا المحيط على منطقة موجودة خارج نطاق كوكب الأرض، بل يمكننا أن نعتبره موجودا على بقعة ما من الأرض، ولا يمكن أن يخل هذا الاعتبار بميزان الفيلم كثيرا. وفي الوقت نفسه، فإن فكرة الخيال عند تاركوفسكي قائمة على فكرة نفسية تتعلق بمشاعر الإنسان وكأن سر وجوده هو مشاعره وكينونته تتعلق ببشريته أولا وأخير، كما أن وجه المفاضلة بين كل ما يحيط بالبشر من عوالم خارجية ـ وحتى داخلية ـ هم البشر أنفسهم. فإذا كان كوبريك يصل في الإنسان إلى عوالم خارجية غير مبنية على رؤية أو إدراك معين، حتى هذه اللحظة، سوى خضوع نهاية فيلم كوبريك لتفسير قد يكون صحيحا أو خاطئا ضمن أفكار نيتشه، فإن تاركوفسكي يعيدنا بقوة إلى الجوهر الذي يرتبط بعوالم داخلية مدركة، تتعلق أولا وأخيرا بداخل الإنسان. بعد أن يصطدم الإنسان مع الآلة عند كوبريك ينتقل إلى عوالم غير متناهية لا تحمل أي تصور معين كما قلنا ثم يعود بعد وصوله إلى هذه العوالم إلى حالة(الجنينية)، كأن كوبريك يقول بأن الإنسان يعود إلى بدائيته، إلى تصوره وأصله القردي الذي صوره كوبريك في بداية الفيلم، هذا عندما يصطدم بحدود المعرفة وقدرته الضئيلة على المعرفة أو ربما بناء على نيتشه الفيلسوف، الذي انتقل تاركوفسكي نقلة نوعية في أفكاره عبر محاكاته لأفكار هذا الفيلسوف في فيلمه الأخير التضحية: الإنسان سيظل محبوسا في الفضاء لا يستطيع الوصول إلى الله فهو لا يملك أي قرار.

ومع العودة إلى فيلم تاركوفسكي فهو يعظم النزعة الفردية البشرية، لأن الإنسان في تلك المنطقة المجهولة من الكون سيصطدم أولا وأخيرا مع واقعه، مع ماضيه الواقعي المبني على حقائق حياتية عاشها المرء في الماضي، مع الماضي الذي ليس سوى تأكيدا لحقيقته، وتأكيدا لمصدره.

وحتى شخصيات تاركوفسكي تؤكد على الأصل البشري الواحد عندما توضع في محيط واحد سواء على المحطة الفضائية، أو ضمن مناظر طبيعية مغرم تاركوفسكي بتصويرها وهي في قمة التوتر، مرتبطة مع بعضها البعض بهواء التوتر. وهذا ليس إلا ربطا لجميع شخصياته بأنها ليست جميعا على حق ضمن وجهات النظر التي تتراود في ما بينها كإدراك لاواع للمصادر الخارجية، وكدليل أو إشارة إلى مصدرها الواحد. بذلك تكون اللقطة الافتتاحية للفيلم سولاريس ليست إلا تأكيدا لفكرة أن كلفن هو ابن الأرض وهي الفكرة التي قالها تاركوفسكي بغموض أو ربما بمكر شديد. والنقطة التي عاد إليها كلفن يستطيع العودة إليها بكل بساطة ولذلك نستطيع الحكم التام بأن الرحلة قد اكتملت.

ونصل إلى نتيجة مهمة فالمعاني الروحية المتضمنة في التكنولوجيا هي أكثر أهمية من التكنولوجيا نفسها والبحث عن المعنى عند تاركوفسكي هو ذاتي، هو حنين إلى الحرية الأخلاقية بشكل كامل. يبقى فيلم سولاريس مقنعا أكثر من فيلم 2001 ويشكل انعطافه مهمة في رواية ستانسلوليم لأن نص الفيلم كتبه تاركوفسكي نفسه مع فريدريش جورنستين) (Friedrich Gorenstein).

فإذا كان فيلم 2001 يعرض العوامل المساعدة التي شكلت انعطافة مهمة للجنس البشري الذي يتحول مصيره إلى الآلات ومستوى الحياة الأعلى، ففي سولاريس شاهدنا الإنسان ينفصل عن الأرض ويركز تفكيره حول الكائنات الخارجية التي اصطدمت مع عدم فهمه.

لكن تاركوفسكي يقول بأن الأمر الذي لا مفر منه أتى من الإدراك بأن تلك القوى لاشيء في مقابل مخاوف الإنسان الداخلية والحنين المختفي بعمق في داخله.

[email protected]