الفيلم الذي أثقل ظهر بوش

قاسم حول

TT

انتهت ولاية بوش وولاية الجمهوريين بفوز أوباما الساحق في الانتخابات الأميركية. ولم تكن سياسة بوش ولا سياسة الجمهوريين محط ارتياح سياسيي العالم وسياسيي الشرق الأوسط والمنطقة العربية، سواء صرحوا بهذا التململ أو سكتوا عنه لهذا السبب أو ذاك. لكن السينمائيين في العالم هم غير السياسيين، فليست لهم مصلحة في السكوت، بل إن مصلحتهم تكمن في كشف الحقائق الموضوعية.

ولعل المنطقة الأكثر سخونة خلال السنوات الخمس الماضيات، هي العراق والحرب الدائرة فيه. فالنتائج التي حصدتها أميركا كانت مرة على شعبها، وأكثر مرارة على شعب العراق. ولم يجرؤ في الحديث عن تلك المرارات سوى عدد من السينمائيين، برز منهم البريطاني نيك برومفيلد وكذلك الأميركي مايكل مور، الذي عتمت السينما الأميركية وشاشات التلفزة على أعماله، وكان ينظر إليه كشخص غير مرغوب فيه، وهو يعارك بجدارة في معركة ثقافية تحمل نتائجها كثيرا، لكنه في النهاية يعتبر منتصرا مع مجيء أوباما للسلطة. وكانت أفلام مايكل مور وثائقية طويلة في بنية درامية، كشف فيها العنف الأميركي بوضوح وجرأة فريدتين.

لكن الفيلم الذي قصم ظهر بوش والسياسة الأميركية الجمهورية، هو فيلم «معركة من أجل حديثة» Battle for Haditha. وهو فيلم روائي ذو منهج وأسلوبية وثائقية للبريطاني نيك برومفيلد، الذي جسد الحالة النفسية للجنود الأميركيين، التي تؤدي إلى تصرفات غير محسوبة، فتودي بحياة الأبرياء وتودي بالحب وتخلق حالة من العنف المضاد، الذي يوسم بالإرهاب. لم يكن الفيلم البريطاني إدانة سياسية، وإن كان كذلك بشكل ضمني، لكن القيمة الفنية الأساسية هو تحليل لمعاناة الجنود الأميركيين في العراق. والقصة السينمائية مأخوذة من حادثة في مدينة حديثة العراقية، كان منفذوها فرقة من جنود المارينز. هي حادثة حقيقة حصلت في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) في مدينة حديثة العراقية عام 2005، إذ هاجمت قوات المارينز القرية على أثر متفجرة زرعها بعض المقاومين وأدت إلى تدمير آلية عسكرية، قادت فرقة المارينز إلى ذلك الانتقام من أناس أبرياء في تلك القرية، لا علاقة لهم بالحادث. وحاولت القوات الأميركية التقليل من عدد القتلى الذين بلغوا أربعة وعشرين قتيلا، بينهم ستة أطفال، لكن المقاومين الذين كانوا يصورون العمليات نشروا الشريط، ووصل إلى مجلة «تايم» التي كتبت عن الحادث، فتناولها المخرج برومفيلد ليكتب عنها قصة سينمائية متكاملة دمجت فيها المخيلة السينمائية بالحادثة الواقعية.

فأين تكمن قوة الفيلم؟

إن مخرج الفيلم مخرج وثائقي بالأصل، له مدرسة في السينما الوثائقية أثرت سماتها على الكثيرين، ومنهم الأميركي ما يكل مور. وعادة، فإن مخرج الأفلام الوثائقية لا بد أن تنعكس أسلوبيته على الفيلم الروائي في حال نفذ مثل هكذا أفلام. وقد كان ذلك واضحا في فيلم «معركة من أجل حديثة». فالمخرج اعتمد أسلوب الكاميرا المحمولة والحركة السريعة للكاميرا المحمولة، التي تبدو وكأنها أمام حادث حقيقي ساخن يريد أن يلتقط منه المصور أكبر وأهم التفاصيل، فنجح في ذلك كما نجح إلى حد كبير في اختيار مواقع التصوير في الأردن، متحاشيا بعض ملامح المدينة الأردنية، ومعتمدا على اللقطات القريبة لجنود المارينز في مسيرتهم بالآليات العسكرية داخل المدن، واختار مواقع حيادية في معالمها، لكي يسقط عليها الحدث العراقي ويسقطها على المكان العراقي. وقد مزج مع الأحداث الروائية بالصيغة التسجيلية بعض اللقطات الوثائقية، وحقق بقناعة عالية المستوى وجود جنود المارينز في قاعدة داخل العراق ساعد في ذلك نوعية الممثلين والكومبارس، الذين أدوا أدوار العائلات العراقية وقد برزوا جميعهم بقدرة فائقة، وهم ليسوا ممثلين محترفين، لكنهم تفوقوا في أداء أدوارهم فأغلبهم من اللاجئين العراقيين المقيمين في الأردن، وبينهم ممثلون أردنيون تدربوا على اللهجة العراقية، مع أن اللهجة الأردنية ليست بعيدة كثيرا عن اللهجة العراقية. من بين الممثلين الذين أبدعوا حقا في أداء أدوارهم الممثلة العراقية الأشورية الأصل ياسمين حناني، التي يقال إنها لم تر العراق في حياتها وقد ولدت خارج العراق وكانت مبدعة وجريئة أيضا. وسبق لها أن لعبت أدوارا في أفلام أميركية. لم تكن لها حوارات مطولة في هذا الفيلم بسبب عدم إتقانها اللهجة العراقية، ما يصعب عليها أداء مونولوجات طويلة، سوى بعض الجمل العراقية القصيرة، لكن أداءها كان مدهشا في الفيلم، وارتقت في أدائها إلى مصاف ممثلات كبيرات في الغرب، وهي مؤهلة لكي تتألق في عالم التمثيل السينمائي.

فيلم «معركة حديثة» لولا وجود الخلل في بنيته السينمائية في المراحل الأخيرة من الفيلم لحقق سيمفونية سينمائية بين ما هو روائي وما هو وثائقي، حيث الأسلوبية في مزج الأداتين كانت مبتكرة، ويمكن القول إنها أسلوبية خاصة بالمخرج نيك برومفيلد، تأثر بها وبشكل حرفي المخرج باول غرين غراس في فيلمه «يونايتد 93» عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) بشكل واضح.

لعب الدور الرئيس في فرقة المارينز عسكري عاش بضع سنوات في حرب العراق، وبعد أدائه في هذا الفيلم تحول إلى ممثل محترف وهو العسكري إيليوت كرويز، الذي عاش حياته في الفيلم كما عاشها في فصيل المارينز.

المشاهد الأخيرة من الفيلم تجعل المشاهد متأرجحا بين إدانة جنود المارينز وإدانة المقاومين، فضاع مفهوم الإرهاب الذي كان حتى قبل نهاية الفيلم في مشاهده الأخيرة يشير إلى أن الإرهاب في حقيقته يكمن في العسكرية المنفلتة في مواجهة شعب لا يعرفونه ويخافون منه وعليهم أن يميتوا أي مخلوق يواجههم مهما اتسم بالبراءة. قتل عشوائي لمواطنين أبرياء في قرية حديثة العراقية، تحول حياة تلك القرية إلى تراجيديا مدمرة جعلت منفذي العملية ضد المارينز الأميركي يصابون بالفزع بعد أن راح ضحية عمليتهم أربعة وعشرون مواطنا بريئا بينهم أطفال.

بعد أن حصلت مجلة «تايم» على شريحة فيديو فضحت الحادثة وتناولها المخرج في كتابة سيناريو، ومن ثم تم تحويلها إلى فيلم بدعم من القناة الرابعة البريطانية، اضطرت الإدارة العسكرية الأميركية أن توجه التهمة لأربعة من جنود المارينز، وهذا أيضا ما أظهره الفيلم، وهو ما خفف من قوة الإدانة سينمائيا. كما يعرض لنا الفيلم أساليب المقاومين في تزييف الحقائق. هذه المشاهد القصيرة هبطت ذروة الفيلم. والفيلم إضافة إلى تأثيره في المشاهد إنسانيا فهو يقدم خبرة جمالية عالية في الشكل السينمائي الجديد بين ما هو واقعي وبين ما هو متخيل.. وثائقية في صيغة روائية وروائية في صيغة وثائقية.

قيل إن هذا الفيلم أتعب جورج بوش من خلال ما تركه من أثر في بريطانيا وأميركا، فكان الناس يتداولون الشرائح المطبوع عليها الفيلم لكي يشاهدوا صورة أبنائهم في الحرب، وقد أحدث الفيلم لغطا في صفوف المجتمع الأميركي، وكتب عنه النقاد كثيرا وكان قد تأجل عرضه سينمائيا لتخفيف الصدمة، ولكن الفيلم الآن مؤهل لكي يعود بقوة للمشاهد. إن صورة الإرهاب جسدها الفيلم ممثلة بإرهاب المحتل وليس بإرهاب المقاومين، ولولا التنازل الأخير في العشر الدقائق الأخيرة من الفيلم لشكل في حقيقته قيمة تأريخية بين ما هو روائي وما هو تسجيلي. تقنية عالية وأداء جيد ومواقع تصوير مقنعة وتنفيذ غير عادي. أكاد أشك في أن الدقائق الأخيرة فيها شيء من المساومة بين القناة الرابعة البريطانية والمخرج، وبدون هذه المساومة يصعب إنتاج الفيلم، وبالتالي عرضه سينمائيا وتلفزيونيا. ومع هذه المساومة والتنازل في آخر الفيلم، إلا إنه أتعب الإدارة الأميركية وقوات المارينز ولم يتمكنوا من التعتيم عليه. سيعود الفيلم إلى الواجهة بعد رحيل بوش عن البيت الأبيض، لأن الحقائق المخفية ستكشف سينمائيا. وسيعود في تقديري ما يكل مور إلى ساحة الإعلام كشخص محبوب، بعد أن كان غير مرغوب فيه رسميا في أميركا، وسيعاد عرض الأفلام التي تدين الحرب في العراق وتدين الاحتلال وتدين سلوك الجيش الأميركي لتلقي كل هذه الأفلام بثقلها على ظهر بوش الابن المنسحب من البيت الأبيض. المحاولات تجري الآن من قبل المهتمين بشؤون السينما، لكي يجمعوا كل تلك الأفلام التي تكشف الواقع الصعب في العراق، لكي ينظموا عروضا سينمائية عن أفلام الحرب في العراق.. سيحصل ذلك في أوروبا وفي أميركا ولا أحد يستطيع أن يوقف هذه الإدانة التي كشفتها عدسات الكاميرا في أفلام وثائقية وأخرى روائية ذات منهج وثائقي.

sununu@ziggo. nl