آراء سريعة تبحث عن أجوبة لأسئلة معقدة

السينما اكتسبت الشمولية.. ولكنها خسرت ما تمتلكه الفنون الأخرى فرادا

TT

هنالك رأي شائع جماهيريا ونقديا. وهو أن السينما لن تتمدد لتعانق عظمة الفنون الأخرى، أو الأدب على وجه الخصوص . فالسينما في المقام الأول كما يقرر أحد النقاد: مجرد اختراع. هي ليست فنا في بداياتها، وإنما وليدة معمل اختراعات، في ورش الإخوة لوميير في فرنسا ولوري ديكسون في أمريكا. والعقول التي ابتكرتها لم تكن فنية، وإنما عملية. ولكن هذا رأي مردود، فالكتابة كانت أشبه ما تكون باختراع للتواصل، وبلغات بدائية، وكذلك النحت، كما أن الشعر في وقت من الأوقات كان مجرد ابتهالات للآلهة. الفيلسوف والمنظر الألماني الشهير هيجل له نظرية معروفة في نهاية التاريخ، حيث يقرر أن الإنسان يسير من مرحلة اللاوعي إلى الوعي، في كافة مظاهر الحياة، فمن البداوة إلى الحضارة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الأرستقراطية إلى البرجوازية... إلخ . كل شيء يجرُّ إلى شيء بعده بشكل متواصل، ويتوقف هذا المد الطولي عندما تصل الحضارة العالمية إلى ما يسمى بـ الليبرالية، حيث يكتمل النمو الحضاري للمجتمع، ويصل العقل الذاتي الإنساني إلى أقصى المراتب الإدراكية، ولذلك لا يحتاج حينها إلى التاريخ أو الفن أو الأدب، وهي المرحلة التي أثبت المفكر الشهير فرانسيس فوكوياما الوصول إليها قبل أن يتراجع عن رأيه مرة أخرى. وبما أن كل شيء يتطور إلى ما يليه؛ فإن الإبداع أيضا لا يشذُّ عن هذه القاعدة، فقد تطورت الملحمة إلى الرواية، والشعر إلى النثر، والنحت إلى الرسم بغض النظر عن التفاصيل التاريخية الدقيقة. وفي ما يتَّصل بهذا الشأن، يقول الروائي التشيكي الشهير ميلان كونديرا متحدثا عن فكرة انتهاء الرواية: «إن ما أعرفه فقط هو أن الرواية لم تعد تستطيع الحياة في سلام مع روح عصرنا، وإذا ما زالت تريد الاستمرار في اكتشاف ما لم يُكتشف، إذا ما زالت تريد أن تتقدم بوصفها رواية؛ فإنها لن تستطيع أن تفعل ذلك إلا ضد تقدم العالم». فالفكرة لديه أن جوهر الرواية هو التعقيد والاستمرار والتمدد، ولكن روح العصر هي الشمولية في أفكارها المعلَّبة، ومرهونة بذات اللحظة اليومية التي تقلص الزمان، وتضيِّق الأفق، وبالتالي فروح الرواية تتعاكس مع روح العصر. ولذا يعنون «روايات ما بعد تاريخ الرواية»، للروايات التي لا تقدم جديدا وإنما تستمر في تأكيد ما أتت به سابقاتها. ولذا فإن السينما تبدو في صورتها الحالية الحلقة الأخيرة في هذا التطور، حيث تلتقي فيها أغلب الأجناس الإبداعية، ولذا فليس مستغربا أن تكون الشمولية هي ميزتها الأهم، ولكنها شمولية تفتقر إلى العمق المطلوب، تماما كهذا العصر، الأكثر شمولية والأقل عمقا.

وإذا نظرنا إلى السينما – نظريا – من هذه الزاوية وابتعدنا عن الآراء الفلسفية والتشكيلات النظرية ؛ فهي أشبه ما تكون بوعاء جمع فيه ما لذ وطاب. ولكن المشكلة، أن كل ما لذ وطاب فرادا لا يتناسب مع بعضه. ولذا يجب أن يتواجد في هيكلة العمل شخص ما يتمكن من المزج بين هذه الطيبات الكثيرة لتكون وجبة مقبولة المذاق. وهنا أتى المخرج، الطباخ الحاذق الذي يُركِّب المقادير لتتمازج مع بعضها في توازن وتناغم. فمع بدايات اختراع السينما؛ لم يكن هنالك مخرج. أولا، كان هنالك مخترعون، فالأخوان الفرنسيان لوميير والأمريكي لوري ديكسون لم يكونوا سوى مخترعين، يسعون في تجاربهم إلى ابتكار «الآلة» من دون الدخول في الأغراض الفنية التي قد تُستعمل لها وبها. ثم جاء من بعدهم مصورون، مثل الأمريكي إدون بروتر، ومسرحيون مثل جورج ميليه، وبعد حين أتى المخرج، الذي لم ينضج دوره الحقيقي – رغم حضور ديفيد غريفيث ولوي فويلاد وغيرهم – إلا على يد السوفيتيين آيزنستاين وبودفكين وجوفينكو وغيرهم. ولذا فإن الإشكالية الحقيقية؛ ليست في إثبات أن السينما جمعت في جعبتها وملكت بين عناصرها مكونات الفنون الأخرى، فتلك حقيقة بديهية لا تحتاج إلى إثبات. الإشكالية: هل تستطيع السينما أن تجمع بين كل هذه المكونات بطريقة سليمة، فنية، إبداعية، توفر الجمال، والعمق.... إلخ ؟ الحقيقة التي لا نستطيع غضَّ النظر عنها حال الجواب عن هذا السؤال هي أن السينما اكتسبت الشمولية، ولكنها خسرت ما تمتلكه الفنون الأخرى فرادا. فالرأي أن السينما لن تكون بذات العمق والسيطرة والتمدد السردي الذي تتميز به الرواية. ولن تكون بذات الجمالية الغائية (من دون غاية) التي يتميز بها التصوير (سواءً رسما أم نحتا أم فوتوغرافيا، ولن تكون بذات الشاعرية الخلابة الضاربة في الأعماق التي يتميز بها الشعر والنثر الشعري. ولن تكون بذات الزخم العاطفي الذي تخلقه الموسيقى. لماذا ؟ لأن كل عنصر من العناصر السابقة لا يعمل في السينما وحده كما هو في أصله، بل عليه أن يكون جزءا من المنظومة، وبالتالي يجب أن يتخلى عن كثير من مميزاته التي تجدها في فنه الأصلي، وكأنه يُخلق من جديد وفق التركيبة السينمائية. ولذا، فإن السؤال الحقيقي؛ هو: هل تستطيع أن تكيِّف السينما شموليتها لتصنع هوية لنفسها بعناصر الفنون الأخرى ؟ هنالك محاولات على مدى التاريخ السينمائي القصير، كلها لها توجهات وأساليب مختلفة وتنتمي إلى مدارس وعقليات وفلسفات مختلفة. وإذا كانت السينما في صورتها الحالية تواكب روح العصر الحديث بشموليتها وعدم تعمُّقها؛ فإنه يجوز لنا أن نعتبرها بناء على ذلك «فن العصر»، حيث تمتلك كل مقومات هذه التسمية، ولست أتكلم عن الجانب الجماهيري الذي كسبته فعلا؛ وإنما أيضا عن الجانب الفني أيضا. فالسينما تستطيع أن تكشف عن عقلية إنسان القرن الواحد والعشرين وكل ما يحيط به أكثر من أي فن آخر، لأنها شبيهة بالعالم الذي من حولنا، وشبيهة بنا أيضا.

[email protected]