ما معنى أن تكون ساخرا ؟

فن النظر إلى الأشياء من زوايا أخرى

TT

* ما هو العبثي بالضبط ؟!

* أقصد في الفن طبعا.. متى نستطيع أن نطلق على العمل الفلاني أنه عبثي؟

* ربما نقول إن ما يُخالف المنطق هو عبثي، وإن اللامعقول عبثي أيضا، ولذا.. يَسِمُ البعض السريالية بأنها «فن العبث»، لأنها تقوم بمزج أحداث وصور غير مقبولة في تركيبٍ عبثي، لأجل إثارة، أو تأجيج شعور أو تفاعل معيَّن. ولكن حينما يجتمع اللامعقول أو المبالغة في التصوير، مع السخرية؛ تنشأ الكوميديا العبثية.. ولكن يجب حينها أن نسأل: ما معنى أن تكون ساخرا ؟. هل هذا يعني أن تكون مضحكا ؟. ليس بالضرورة.. فلك أن ترى السخرية كوسيلة لرؤية الأمور بعيدا عن قيود الجدية، مما يمنح المتلقي فرصةً لرؤية الأشياء من زوايا متحررة، فقضايا الموت والأديان والمشاعر والعلاقات ومشاكل المجتمع وغيرها، هي قضايا حساسة، نتناولها بشيء من الحذر، ولكن حينما نتحرر من هذا الحذر عن طريق السخرية، فإننا نكتشفها بطريقة أكثر أريحية. ولذا، فإن الساخر فنان، ولكن بطريقته الخاصة. ويحق لك أن تُصنف السخرية على أنها رؤية العالم بدون قيود الشرح التقليدية، فأنت متحرر من كل قيد يجبرك على تحليل الأشياء، وتناولها بشكل جدي، وتقديمها للمتلقي كأفكار مرتبة، ولديك القدرة على اختبار الحياة متحررا منها، كمن يلخِّص لابنه معادلة رياضية في مثال حياتي بسيط: إذا أعطيتك ثلاث تفاحات، وأخذت واحدة، فكم يبقى؟. في أحيان كثيرة، يجب أن تنظر إلى الأشياء من زوايا أخرى، حتى تفهمها. ربما لا تكون هذه الرؤية بمثل جدية أو رصانة الرؤى الأخرى، ولكنها قد تكشف لك ما لن تجده في غيرها. ولهذا، فإن السخرية، في حد ذاتها، ليست مضحكة بالضرورة، لأنها ليست كوميديا أو نكتة، ولكن إذا أضفنا إليها العبثية في تصوير الأشياء، ينتج عنهما مزيج غريب، مزيج مضحك إلى حد الجنون، وكأننا نكتشف الأشياء بأريحية السخرية وتحررها، ولكن بالمعكوس، مما يجعلنا نرى الأضداد، واللامعقوليات، موجودة في واقع حقيقي. وعندما نتحدث عن الكوميديا العبثية، لا بد أن نتحدث عن إحدى أشهر الفرق الكوميدية في تاريخ التلفزيون والسينما، وهي الفرقة البريطانية مونتي بايثون (Monty Python) المتكوِّنة من سداسي بريطاني يقوم بالكتابة والإخراج والتمثيل.

بدأ هذا السداسي كفرقة مسرحية صغيرة في أواخر الستينات من القرن الماضي، ثم انتقلوا سريعا إلى التلفاز عبر مسلسلهم الشهير (Monty Python"s Flying Circus) في عام 1969، الذي استمر عرضه إلى عام 1974. هذا المسلسل أحدث زوبعة هائلة.. فأسلوبه وعبثيته وكوميديته المفرطة بتلك السخرية العجيبة والأحداث الغريبة والكاريكاتيرات الفريدة جعلت منه وجبة دسمة للجمهور البريطاني، وهو الأمر الذي أدى به إلى أن يصبح أحد أعظم وأشهر المسلسلات البريطانية، مما أدى إلى ارتفاع أسهم أعضاء الفرقة وعلوِّ أسهمهم عند كثير من المشاهدين. وهذه الشهرة قادتهم في عام 1974، بعد عدة تحولات، إلى إيقاف عرض المسلسل، الذي يصب تأثيره محليا، والاتجاه بشكل أكبر إلى السينما التي تمنحهم فرصة التوسُّع عالميا، فأخرجوا أفلاما شهيرة، مثل (Monty Python and the Holy Grail)، الذي سبب جلبة كبيرة بين النقاد السينمائيين الذين فوجئوا بهذا النوع والأسلوب الجديد، وكذلك فيلم (Monty Python"s Life of Brian)، وبعدها استمروا في العمـل كمجموعة، على الرغم من انشغـال بعضٍ منهم بمشاريعهم الخاصة، إلى أن انفصلت الفرقة، ولو بشكل غير معلن، في نهايـة عقد الثمانينات لأسباب مختلفة. لا أعتقد أن هناك من يماثل هذه الفرقة في كوميديا العبث، حيث إن ثيماتهم التي تتعلق بالمجتمع والأديان والشخصيات، وكاريكاتيراتهم الغريبة الخلاَّقة وسخريتهم اللاذعة تتَّحد في مزيج متناغم من اللامعقول الذي يحدث في واقع محيط وبين شخصيات حقيقية قريبة من الواقع، تجعلك أمام كوميديا عبثية صارخة، جريئة، بلا حدود، أو قيود فنية. هنالك مصطلح فني يُدعى «الغروتيسك»، ويعني المبالغة في تصوير الأشياء المرئية، سواء زينة أو عمارة أو ديكور أو شخصيات أو غيرها، لإضفاء شيء من السخرية اللاذعة في تصوير الأشياء بطريقة محرفة، ولذا فهو يُستخدم دائما في الأعمال الساخرة. وهو أسلوب قديم، منذ أيام الفرنسي رابليه والإسباني دي سرفانتس وغيرها. وهو الشيء الذي قامت به هذه الفرقة في أغلب أعمالها، فهنالك على الدوام تحريف مضحك وساخر للأشياء المحسوسة.. ديكورات غريبة، شخصيات بتكوينات جسمية غير معقولة، صور محرفة، ورسوم متداخلة.. كذلك فإن الأسطورة السينمائية تشارلي تشابلن ممن انتهج هذا النهج كثيرا في أفلامه، وخصوصا في تحفته «Modern Times» التي كرَّسها لمحاربة ديانة العصر الجديد «الآلة»، أو التكنولوجيا كمصطلح أكثر تطوُّرا، حيث قام بتصوير الآلة مرَّة على أنها هيكل ضخم، يضيع في أعماقها الواسعة الإنسان الضعيف، ومرَّة أخرى على أنها سريعة بشكل جنوني، لدرجة أن العامل البسيط يجد صعوبة شديدة في مجاراتها واللحاق بها، مما يجعله تابعًا لها، عكس ما يجب أن يحصل.