رحيل العمود الثاني من الثالوث الرحباني

ترك إرثاً يثقل كواهل الأبناء

منصور الرحباني («الشرق الإوسط»)
TT

كان منصور الرحباني يعلم أنه يغادر منزله في انطلياس هذه المرة ولن يعود، فبعد إصابته بانفلونزا حادة، وإثر معاناته من تدهور ملاحظ في صحته، نقل إلى مستشفى أوتيل ديو في بيروت، وهناك عندما سأل أحد أبنائه الطبيب المختص عن حالته أجابه «إنه صافي الذهن واع تماما لما يحصل له، ولكنه استسلم للمرض، لأن جسده عاجز عن مجاراة نشاطه الذهني».

وبعد أيام قليلة رحل منصور ليلاقي نصفه الآخر عاصي الرحباني. فهما كانا يشكلان معا حالة من الذوبان الفني التي أدهشت الساحة العربية، فكانت بمثابة لغز لم يستطع أحد حلّه.. عاصي كان يسكن منصور والعكس صحيح، وعندما كتب منصور يخاطب شقيقه في كتاب شعري بعنوان «القصور المائية» قال له: «يا عاصي وأنا صغير مثل ما تركتني/ فقير كتير، قديش ما فيك تتصور.. والمحزن أنك انت بطلت تحتاج شي، بس أنا بعدني هون، وبعد عندي احتياجات».

ولد منصور الرحباني عام 1925، وهو يصغر شقيقه عاصي بسنتين. والده حنا الرحباني صاحب مقهي «فواز انطلياس»، كان رجلا ملتزما وتقليديا. تزوج وهو في الأربعين من عمره من سعدة صعب. وأنجبا بعد عاصي ومنصور، سلوى وإلياس وإلهام، فانتقلوا للسكن في منزل متواضع في بلدة بكفيا. وتحول المقهى في ما بعد إلى ملتقى «القباضايات». وكان حنا موسيقيا بالفطرة، ويعزف على البزق.. وبعد فترة بدأت الموهبة الفنية تظهر على عاصي من خلال كتاباته الشعرية.

تنقل الرحبانيان في عدة مدارس، من «مدرسة عبرين» إلى مدرسة انطلياس، ثم إلى المدرسة اليسوعية في بكفيا. وكانت أحلام الشابين تتفاوت، بحيث كان يحلم عاصي أن يعمل في حقل المجوهرات، فيما كان يرغب الثاني في أن يتحول إلى «تمساحاً».

تأثر الرحبانيان بأجواء الموسيقى في المقهى، التي كان والداهما يعززها بحكاياته وأخباره وعزف بزقه الرنان.

بدأ منصور كتابة الشعر في سن العاشرة، من خلال قصيدة ذات مفردات مقعرة كما وصفها الكاتب عبيدو باشا في سيرة خاصة دونها عن الرحبانية. أما عاصي فأصدر عام 1937 نشرة «الحرشاية»، وهو لا يزال في الرابعة عشرة وبخط يده، واحتوت على خواطر وآراء. وشارك بعدها الأخوان في الكتابة في مجلات أدبية، بينها مجلة «المكشوف» ثم انكبا على قراءة الفلسفة وكتب طاغور ومسرحيات شكسبير. وكان منصور يردد أن أحوال مقهى الوالد تدهورت ومعها وضع الأسرة الاقتصادي، فاضطر مع أخيه للعمل في قطف الليمون. ويقول: «تشردنا في منازل البؤس كثيرا.. سكنا بيوتا ليست ببيوت.. هذه هي طفولتنا».

انتسب عاصي إلى بلدية انطلياس وهو لا يزال في السادسة عشرة، وعمد إلى تكبير عمره سنتين، وكان رئيس البلدية وقتها محبا للموسيقى وعازفا على الكمان، فاغتنم عاصي الفرصة لتنمية موهبته. أما منصور فقد انتسب إلى سلك الشرطة القضائية في بيروت. وجاءت المحطة الأولى للأخوين رحباني في مجال الفن عن طريق الأب بولس الأشقر، فانضما إلى جوقة الصلاة والتراتيل التي كان يشرف عليها الأب بولس الذي وافق على انضمام منصور، فيما تم رفض عاصي لأن صوته لم يكن مناسبا.

وبعدها تعرّفا إلى يوسف أبو جودة، فكتب لهما مسرحيات باللهجة العامية. وعندما رفض كورس الإذاعة اللبنانية ومطربوها أن يغنوا للرحباني، استعانا بشقيقتهما سلوى، وأطلقا عليها اسم نجوى لتؤدي أغنياتهما. ويقول منصور في هذا الصدد: «نحن جئنا بتفكير شعري وبموسيقى مغايرة، تأثرنا بعبد الوهاب وسيد درويش، ثم كتبنا بلغتنا الخاصة».

وبعد أن أظهر عاصي الرحباني موهبة لا يستهان بها في العزف على الكمان، وبعد أن أتقنا الأصول العلمية للموسيقى على يد إدوار جهشان، تشجع رئيس مصلحة الإذاعة فؤاد قاسم على تبني أعمالهما، ثم طلب من منصور الانضمام إلى الإذاعة بصفة عازف كمان، ومؤلف موسيقي، واستقال بعدها منصور من وظيفته في البوليس، وتابع دراسة الموسيقى مع عاصي وتوفيق الباشا على يد برتران روبيتار، الذي علمهم قواعد الموسيقى الغربية والشرقية.

بدأ الرحبانيان العمل على الأغنية القصيرة، فكان همهما استحداث هوية واضحة للأغنية اللبنانية، فعادا إلى الفولكلور لينجحا من خلاله، وصار يخلطان الألحان الفولكلورية الشعبية بعضها ببعض في أغنية واحدة مع كلام من تأليفهما.

عام 1955 تزوج عاصي من فيروز، وسافر الجميع إلى مصر، وبعدها وضع الرحابنة مجموعة من الأغاني عن القضية الفلسطينية مثل: «راجعون» و«سنرجع يوما» و«زهرة المدائن». وعام 1956 استدعيا للمشاركة في مهرجانات بعلبك من خلال «الليالي اللبنانية». وأصرّ عاصي على أن تكون فيروز النجمة الوحيدة لهذه الاحتفالات، على أن تتقاضى مقابل ذلك ليرة لبنانية واحدة! وعمد المخرج ليلة الافتتاح إلى تسليط الأضواء من قاعدة العمود ومن زوايا مختلفة من القلعة الأثرية، فظهرت فيروز وكأنها تسبح في الفضاء. وعندما بدأت تغني «لبنان يا أخضر حلو» اشتعلت المدرجات بالتصفيق.

وبعدها كرّت سبحة المسارح مع الرحبانين، فعام 1960 كان «لموسم العز»، مع صباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين، وقعها الايجابي لدى الجمهور، ومن ثم «البعلبكية» عام 1961، التي قدمت في بعلبك ودمشق عام ،1962 إضافة إلى «الليل والقنديل» و«بياع الخواتم» و«دواليب الهوا»، أيضا مع صباح ونصري شمس الدين، وكان عاصي يلحن ومنصور يكتب، ومرات كثيرة يتبادلان الأدوار، فيأتي توقيع الأعمال باسم «الأخوين رحباني».

وعمل الأخوان في مجال التلفزيون، واستهلاه بـ«حكاية الهوارة». ثم كانت خطوتهما التالية في السينما، فنقلا مسرحية «بياع الخواتم» إلى الشاشة تحت إدارة يوسف شاهين. ومن ثم «سفربرلك» و«بنت الحارس» من إخراج هنري بركات.

وبدأ فن الرحبانية ينتشر فعليا في لبنان والعالم العربي، وعرف «بمدرسة الرحابنة»، وامتد عصره الذهبي من منتصف الستينات إلى أواسط السبعينات.

وأثناء العمل على أحد حلقات مسلسل من «يوم ليوم» التلفزيوني، الذي لعبت بطولته هدى شقيقة فيروز، بدأ عاصي يعاني من آلام مبرحة في رأسه، ففقد القدرة على التركيز، حيث نقل إلى المستشفى بسبب نزف حاد في الدماغ. واستدعي جراح للأعصاب في فرنسا لإجراء عملية جراحية له، وبعد فترة تمكن عاصي من العودة إلى حياته الطبيعية، ولكن بشكل محدود. وكان الطبيب المختص قد أعلم عائلته أنه سيتمكن من التلحين وليس من الكتابة، فعاد إلى عمله، ولكنه كان يعاني في بعض الأحيان من صعوبة في النطق. وكانت «المحطة» أول عمل للأخوين رحباني بعد تعافي عاصي من أزمته الصحية، ولحن فيها أغنية «ليالي الشمال الحزينة». بعدها طلب منصور من زياد أن يعملا معا على أغنية تقدَّم كتحية من الثلاثة (منصور وفيروز وزياد) إلى عاصي فكانت «سألوني الناس عنك يا حبيبي». في نهاية السبعينات بدأت المشاكل تتفاقم في الاسرة الرحبانية، فأدت إلى الانفصال بين فيروز وعاصي، ومن ثم بينها وبين الأخوين فنيا عام 1979، فقدما بعدها مسرحيتي «المؤامرة مستمرة» عام 1980 و«الربيع السابع» 1984. واهتزت المدرسة الرحبانية عندما رحل عاصي في 21/6/1986 إثر غيبوبة طويلة دخل فيها.

وبقي منصور وحده على الساحة، فقدم «صيف 840» و«زنوبيا» و«حكم الرعيان» و«النبي» و«المتنبي» و«آخر أيام سقراط» و«عودة الفينيق» وهي المسرحية التي كانت تعرض حاليا على مسرح «كازينو لبنان» وسيعاد عرضها في أواخر فبراير (شباط). ولاقت هذه المسرحيات انتشارا ملحوظا، على الرغم من تعدد وجوه الأبطال فيها، أمثال كارول سماحة، غسان صليبا، لطيفة التونسية وغيرهم. أصدر منصور مجموعة كتب شعرية: «أسافر وحدي ملكا»، «أنا الغريب الآخر»، «القصور المائية»، «بحّار الشتي» أما الكتاب الخامس فحمل توقيع الأخوين رحباني بعنوان «القصائد مغناة» ويحتوى على أجمل ما غنته فيروز.

وعندما سئل عن توقيت طرحه كتاب يحمل الذكريات قال: «إنها خطيرة ولا بد ستقرؤونها بعد عمر طويل».

وكتب منصور شعرا يعلن فيه خوفه من الموت فقال: «رحت وما ودعتك/ زعلان من حالي/ ومن قبلها كنتي معي ومضيعك عشرين سنة/ مضيعك فتش عليك بالهدني وانتي بقلبي قاعدة وما اقشعك.. هلق أنا عرفت الدني وانتي الدني/ يلعن أبو هالعمر مستكتر عليّ بعيونك الخضر اتشمس ولو سنة». وكتب في الموضوع نفسه: «كم أنا قريب من فرح الحق ودمع الله».