التلاعب بالزمـن

الإبداع يمكن في كيفية تقديمه بطريقة فنية مميزة

لقطة من فيلم «تذكار» أشهر أفلام التلاعب بالزمن («الشرق الاوسط»)
TT

منذ قديم الزمان، عندما كان رواة القصص يروون حكاياتهم للناس، اعتادوا بدافع السليقة أن يرووها وفق التسلسل الزمني الذي حدثت فيه، فلا يمكن أن يقفز من البداية إلى النهاية أو يبدأ من النهاية ليتجه إلى البداية، لأن العرف بتكوينه الواقعي يقتضي أن تُروى الأحداث وفق تسلسلها الزمني، حيث كان الهدف من رواية القصة هو «الحكاية» في حد ذاتها، وليس طريقة تقديمها.. ولكن عندما تتحوَّل أغراض الراوي الذي قد يكون في العمل الإبداعي روائيا أو سينمائيا أو مسرحيا من حكاية القصة المجردة إلى كيفية تقديمها، يفقد عنصر التسلسل الحكائي أهميته أمام أهمية الأسلوب الذي يريد تقديم القصة من خلاله. في الرواية مثلا؛ يجد الروائي مساحة كبيرة من الحرية تُمكِّنه من التلاعب بالزمن كيفما يشاء، وبالطريقة التي يحب، حيث إن الراوي – أيا كان – داخل الرواية يوجِّه القارئ للمضي معه في تقديم القصة بغض النظر عن تسلسلها الزمني. أما في السينما فالمسألة معقدة. ففي بعض الأفلام يوجد راوٍ صريح، يقودنا في عملية التنقل الزمني كما نرى في تحفة أكيرا كوروساوا Rashomon، أو راوٍ خفي عن طريق الاستفادة من الأدوات المختلفة للتلميح للمشاهد بالعودة إلى الخلف أو الذهاب إلى الأمام كما نرى في تحفة إنجمار بيرجمانCries and Whispers مثلا. ولذا عندما نأخذ رواية التشيكي ميلان كونديرا «كائن لا تحتمل خفته» نرى كيف أنه اعتمد في روايته على «المواضيع» وليس على «التسلسل الزمني»، فيتناول موضوعا معينا يتعلق بشخصياته ثم يتكلم عنه باستفاضة وتحرر من قيود التسلسل الزمني في الأحداث، وكأن الزمن لديه لم يعد فيه مستقبل أو ماضٍ، لأن الرواية لا تهتم بالتسلسل الزمني حتى يصبح لها ماضٍ ومستقبل، فقد نشاهد أحداثا متقدمة من حياة الشخصيات في أول الرواية، كما قد نرى العكس على حد سواء. ولكن الرواية حُرِّفت تماما حينما تم تحويلها إلى فيلم كتبه السيناريست الشهير جان كلود كاريير بمشاركة مخرجه الأميركي فيليب كوفمان، مما أفقدها جزءا كبيرا من جماليتها الخاصة التي اكتسبتها من عدم اهتمامها بالتسلسل الزمني وإنما بالموضوعات التي قدَّمت الشخصيات وكأنها موضوعةٌ لإجراء دراسة نفسية وعاطفية وتفاعلية عليها، وهو الأمر الذي يجبر القارئ بطريقة أو بأخرى على التفـاعل معها وتكوين علاقة حميمة أثناء القراءة. وهو الأمر الذي لم نره في الفيلم بتاتا، حيث قام بإعادة كتابة أحداث الرواية وفق تسلسل زمني يبدأ ببداية محددة وينتهي بنهاية محددة، وهو ما لم يجد الكاتب القدير كاريير وكذلك كوفمان بدا عنه، حيث إن الرواية تندرج تحت الروايات التي يصعب تماما تحويلها إلى فيلم سينمائي، لأنها تستخدم أدوات روائية غير موجودة في السينما، مما أجبرهما على ضرورة تحريفها، ففقدت بذلك جماليتها. ولكن بعد فيلم «كائن لا تحتمل خفته» بست سنوات تقريبا، فجَّر الأميركي كوانتين تارانتينو مفاجأة كبيرة حينما أخرج رائعته Pulp Fiction بطريقة غريبة للغاية، حيث إنه اتبع نفس الطريقة التي اتبعها كونديرا في روايته، إذ تناول الأحداث والشخصيات عن طريق المواضيع وليس عبر التسلسل الزمني، مما جعلنا نشاهد حدثا في أول الفيلم سنشاهده في النهاية، وسنرى النهاية في وسط الفيلم، فالعبرة لم تعد في الإثارة التي يخلقها تسلسل الأحداث نحو نهاية محددة، وإنما في جاذبية وسحر المواضيع التي تتناول الشخصيات المختلفة ذات الطبيعة المميزة والأحداث الغريبة التي تمر بها، ولذا كان الفيلم تجربة جذابة للغاية. ولكن هنالك نوعية من الأفلام التي تتلاعب بالزمن دون اللجوء إلى الراوي أو المواضيع أو التلميحات كالكتابة على الشاشة أو تمييز مشاهد المستقبل بالأبيض والأسود أو غير ذلك، وهذه الأفلام التي تنتهج هذه الطريقة تجد صعوبة كبيرة، حيث إنها لا تمتلك راويا صريحا أو خفيا يُوجـه المشاهد للتفريق بين الاختلافات الزمنية، ولذا تعتمد على عملية البناء المتوازنة بالطريقة المناسبة والمفهومة. وبالنسبة لي، فإن أفضل الأمثلة لهذه النوعية من الأفلام هي تحفة الأرميني أتوم إيجويان The Sweet Hereafter التي ضبط فيها عملية التلاعب بالزمن بالشكل المتوازن الذي أبعده عن التشويش، إذ أدخل عملية الفلاش باك والراوي الصريح وكذلك الانتقال المفاجئ.. ولكنه لم يبالغ في التلاعب بالزمن، وإنما تلاعب به بحذر شديد، وببطء، وملأه بالدلائل والإيحاءات التي تدلل على هذا التنقل. وهو الأمر الذي فشل فيه المكسيكي أليخاندرو غونزاليز في فيلمه المؤثر21 Grams، حيث يتميز العمل بسمو الأفكار التي يتناولها وبعمق الشخصيات المضطربة، ولكنه أفسده بالطريقة التي قام بانتهاجها في تلاعبه بالزمن، مما جعل المشاهد يعيش تجربة رائعة ومؤثرة على الصعيد الفكري والعاطفي، ولكنها متعبة جدا على الصعيد التصويري. ونفس الكلام ينطبق على فيلم المخرج البريطاني الشهير كريستوفر نولان Following الذي أنتجه بميزانية متواضعة لا تتجاوز الستة آلاف دولار! واتبع نولان منهج التلاعب بالزمن لإضفاء نوع من الإثارة والغموض وإضاعة المشاهد الذي يتشبث بكل خيط يراه ليكشف له عن الحقيقة، ولكنه بالغ إلى الدرجة التي تحوَّل فيها العمل من فيلم فني إلى مجموعة ألغاز متداخلة مرهقة إلى حد كبير، ورغم إتقان هذه الألغاز في حد ذاتها إلا أن الإبداع لا يكمن في صعوبة اللغز وإنما في كيفية تقديمه بطريقة فنية مميزة وواضحة. كما أن هنالك نوعية من الأفلام تنتهج طريقة مميزة للتلاعب بالزمن، وهي الأفلام المعكوسة، أي التي تبدأ من النهاية وتظلُّ تتراجع إلى أن تصل إلى البداية. وأظن أن من أشهر الأفلام التي اتبعت هذه الطريقة فيلم كريستوفر نولان أيضا Memento، هذا الفيلم الفريد الذي قام بكتابة السيناريو له كريستوفر ذاته، مقتبسا من قصة أخيه جوناثان القصيرة، يواصل فيه التلاعب بالزمن بعد فيلمه الأول Following، ولكن بطريقة أكثر ثباتا وإجادة. في Memento تدور القصة حول الذكريات التي من الأفضل نسيانها، ولذا فإن الرجوع إلى الوراء بهذه الطريقة يمثل البحث عن هذه الذكريات، وإخراجها مرة أخرى من أدراك الذاكرة. كما أن عكس الأحداث يخلق نوعا خاصا جدا من الغموض، فما يحدث الآن لا نعلم سببه، لأن السبب سيأتي في المشهد الذي بعده، وبالتالي يجعلنا الفيلم معلقين إلى النهاية حينما نفك آخر خيوط العقدة. لو لم يتم عكس الفيلم، لأصبح محوره «النهاية»، حيث ننتظر النهاية فقط لنكتشف ما سيحدث، وستفقد حينها الأحداث والعلاقات ميزة الغموض التي اكتسبتها في الطريقة المعكوسة، حيث ستكون العلاقات واضحة ومبررة، والأحداث مجرد تسلسل مفهوم نحو نهاية غير معلومة، وهذا غموض تقليدي مكرر، ولكن الغموض الموجود في الطريقة المعكوسة غير تقليدي، يجعلنا متشبثين بضرورة التفسير، ما الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ وما هي علاقات الشخصيات ببعضها البعض؟ أسئلة تحيرنا وتجبرنا على المتابعة، وفي كل مشهد نحصل على إجابة ناقصة إلى أن نصل إلى البداية المفاجئة. وكمَّل نولان جمالية السيناريو وطريقة التلاعب بالزمن باتباع أسلوب النوير الجديد في الإخراج، الذي أضفى إلى غموض الزمن المعكوس جوا مشحونا بهدوء الترقب.