سردية تاريخية بارعة تغافلت عن عناصر سينمائية مهمة

كلينت إيستوود يمارس فن الكتابة ما بين السطور في.. «الاستبدال»

مشهدان من فيلم «الاستبدال Changeling» للمخرج والممثل الأميركي كلينت إيستوود («الشرق الاوسط»)
TT

يتحدث فيلم الاستبدال Changeling للمخرج والممثل الأميركي الشهير كلينت إيستوود، ومن بطولة النجمة أنجلينا جولي، عن قصة واقعية جرت أحداثها في ولاية لوس أنجليس الأميركية عام 1928 من القرن المنصرم، حيث تقوم أنجلينا جولي بدور (Christine Collins)، وهي امرأة متعلقة جدا بولدها الذي يناهز من العمر تقريبا تسع سنوات، حيث تُفاجأ بعد عودتها من منزلها - تعمل كمشرفة في شركة اتصالات - باختفائه أو عدم وجوده، ولكن هل من هنا فعلا تبدأ أحداث الفيلم؟

في الحقيقة، إذا كانت هذه الفكرة الرئيسية التي يدور حولها الفيلم وتلحن من حولها جميع أحداثه، فإن كلينت إيستوود البارع جدا في الإخراج براعة لا تقل أبدا عن براعته في التمثيل، هذا على الرغم من أنه بدأ الإخراج في سن متأخرة نسبيا -41 عاما- يقول الكثير من هذه الفكرة أو الحبكة المختصرة ويبدع في الكتابة ما بين السطور، ولا يسقط الفيلم في مطب وغاية التكرار، بل يعتمد على تكثيف الأحداث داخل الفيلم محافظا على نسق روتيني واحد في البنية الدرامية للفيلم الطويل نوعا ما، نحو الساعتين وأربعة عشرة دقيقة.

هنا تتحول معركة هذه المرأة إلى صراع مع بنية العدالة في المدينة المذكورة، بدلا من البحث المركز فقط على ابنها، الذي كان من الممكن أن يسقط الفيلم في التكرار الممل لولا أن هناك شخصا يعمل وراء الكواليس يدعى كلينت إيستوود.

الآن (Christine Collins) تحاول إقناع شرطة لوس أنجليس بأن الولد، الذي وجدوه وحاولوا إقناعها ونسبة أمومتها إليه ولو بالقوة، بأنه ليس ابنها، ولكن دائرة شرطة لوس أنجليس ممثلة في النقيب (J.J. Jones) وقام بالدور (Jeffrey Donovan)، تتمسك بهذه الحيلة، بل ويكون الولد المنسوب متواطئا مع الشرطة في هذه الحيلة، ويكون الهدف من هذه الحيلة، والذي استخدم فيها أيضا التضليل الإعلامي، هو التغطية على فشل دائرة الشرطة المستمر في العثور على الأطفال الذين يختفون بكثرة في تلك الفترة. وعندما ترفض كريستينا كولينز نسبة الولد إلى نفسها ورفضها القاطع بأنه ليس ولدها، تقوم الدائرة بتحويلها إلى مستشفى للأمراض العقلية، وحتى في المستشفى الذي لا يوصف سوى بالمعتقل والذي تمارس فيه أنواع معينة من التعذيب ضد أناس معينين، غالبيتهم من مقدمي الشكاوى ضد رجال الشرطة، ونصل إلى نتيجة بأن المستشفى ليس سوى أداة بيد السلطة للتغطية على الفساد الذي تعاني منه، بأساليب قمعية تستخدم ضد كريستينا لإجبارها على الاعتراف بهذا الولد ولو بالقوة.

إن كريستينا بكل تأكيد ليست في مواجهة شخصية مع النقيب جونز، الذي هو ليس شرطيا فاسدا، وليس فردا فاسدا في منظمة تأمر بالعدل، ولكنه ليس سوى تمثيل كامل لهذه المؤسسة الفاسدة: (LAPD-LOS ANGELES POLICE DEPARTMENT) ولكن الواعظ (Rev. Briegleb) وقام بالدور (John Malkovich)، والذي يستخدم الراديو كوسيلة لإيصال أفكاره، والذي لا يمكن أن نصفه سوى كتمثيل للمؤسسات المدنية التي تحاول تشكيل خط ردع لمؤسسات الدولة، يتبنى قضية كريستينا منذ البداية ويستطيع إخراجها من المستشفى في لحظة حرجة وحاسمة.

ويزداد تكثيف الأحداث مع حضور شخصية أخرى ملغزة إلى ساحة الفيلم، وهي شخصية قاتل متسلل يقوم بخطف وقتل الأطفال بوحشية دون سبب واضح، وتتطور الأحداث لاكتشاف مقبرة جماعية للأطفال ومن ثم مشهد يخدم تنوع أحداث الفيلم أكثر، يتمثل في إعدام هذا المجرم.

لم يتحدث إيستوود عن خلفيات هذا المجرم السيكولوجية، التي يبدو واضحا أنها كانت عنيفة، وهذا ليس سببه سوى محاولة المخرج عدم تشتيت المشاهد باعتبار أن قصة المجرم - مع مساهمتها في تنوع أحداث الفيلم - ليست إلا ضلعا لقصة رئيسية أراد إيستوود أن يسردها تاريخيا بكامل حيثياتها، مكتفيا بأن يخبئ رسالته وما يريد قوله بين سطور هذه الحكاية التاريخية.

ومع القوة السردية للفيلم إلا أنه أهمل - غير متعمد - عناصر سينمائية أخرى مهمة تساهم في نجاح الفيلم بشكل عام، فعلى الرغم من الأداء المعتدل الواقعي لكل شخصيات الفيلم مع التركيز على أنجلينا جولي، وحضورهم المتساوي تقريبا طوال دقائق الفيلم، جعلت من الممثلين يخدمون القوة السردية للفيلم وليس العكس، وكأنهم يحاولون رواية قصة من التاريخ الحديث مع الالتزام التام بعدم تكثيف الأداء الدرامي مع ما يلزمه من الأحداث، الأمر الذي لم يسقط الشخصيات في الميلودراما ولكنه جعل أداء الشخصيات رتيبا جدا، بل يستغرب المشاهد أحيانا من شدة هدوء شخصية أنجلينا، ولكن وبالرغم من وجهة النظر النقدية السابقة فجولي حصلت على ترشيح أوسكاري لأفضل ممثلة عن دور رئيسي عن دورها في الفيلم.

ومع غياب التكامل بين السرد والممثلين، ومع القوة السردية للفيلم، فالسيناريو كان على وشك أن يشتت المشاهد، ولو ذكر إيستوود خلفيات المجرم المريض نفسيا لانعدم الخيط المركزي والحبكة الدرامية الفعلية للفيلم.

يبقى الفيلم من ناحية موضوعية ليس بأفضل أفلام إيستوود إخراجيا، ولا يقارن بأفلام على شاكلة (فتاة المليون دولار) الذي استطاع فيه إيستوود التكامل بين السرد والأداء، أو (النهر الغامض) وأداء شون بن العالي المستوى، والذي بمفرده يمكنه أن يجعل فيلما على شاكلة (Changeling) فيلما متكاملا بكل ما تعنيه الكلمة.