العمل السينمائي.. حينما يكون قائما على الشخصيات

من تشيخوف.. وبيرجمان.. إلى وودي آلان

الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف
TT

تتقاطع السينما في كثير من عناصرها وأساسياتها مع المسرح، ولذا فإن التشابه الفني بينهما يجعل المناهج الفنية التي يتبعها أي منهما قابلة للاقتباس من الآخر. وبما أن السينما هي الأخ الأصغر فإنها تتطلع كثيرا نحو المسرح، لعراقته ورسوخ مبادئه ومناهجه وشخصياته، وقد حدث هذا خصوصا في أوائل خروج السينما حينما لم تكن تتميز بشكل وتركيبة خاصة تهيئها للاستقلال، ولذا فمن الطبيعي أن نلاحظ أوجه التشابه في كثير من المناهج بينهما. ففي المسرح يعتبر العبقري الروسي أنطوان تشيخوف من أفضل الكتاب الروس في مجال القصة القصيرة قبل المسرح، بل إنه يوضع بجانب آخرين مثل الفرنسي موباسان والأميركي إدغار آلان بو، ممن كونوا للقصة القصيرة اسما ومكانة في عالم الكتابة الإبداعية وأعطوها شكلا فريدا وخاصا.

ولكن تشيخوف لم يتوقف عند هذا الحد، فقد تحول فيما بعد إلى واحد من أفضل المسرحيين، سواء على المستوى الروسي أو العالمي، وقدم روائع ما زالت إلى وقتنا هذا تمثل مادة دسمة للنقد الفني أو حتى القبول الجماهيري. والسبب في ذلك أن تشيخوف يتميز بمسرح شديد الخصوصية، وضعه في مراتب المجددين في المسرح العالمي بجانب كثير من الأسماء العظيمة.

هذا التجديد جاء في طريقة تناوله لوحدة الحدث، عبر عدم اعتماده على الحدث المتتابع الذي من خلاله تنشأ العقدة وتلتف الشخصيات من حولها، وإنما بالتعمق في تصوير الحالات الشخصية نفسيا وواقعيا، فبدلا من التطور على صعيد الحدث فإن الحكاية ترتكز على تصوير الحالات النفسية والتفاعلات الداخلية العميقة للشخصيات تجاه واقعها، أيا كان شكله وطبيعته، وبدل أن تكون هذه الشخصيات أسيرة تطور الحدث فإنها تكون أسيرة حالاتها النفسية العميقة التي تتفاعل من خلالها لتـكون الخط النهـائي الذي يسير عليه العمل. هذه الطريقة لا تعتبر منهجا واضحا، حيث طبقها الكثيرون قبل تشيخوف، ولكنه منحها الشكل الفني والبناء الدرامي المتين، الذي جعل أعماله أشبه ما تكون بدراسة نفسية يكون الحدث فيها ثانويا. في السينما يبرز اسمان - بجانب أسماء عديدة - تأثرا بمنهج تشيخوف كمسرحي، إثر تقديرهما له في المقام الأول كمبدع عظيم، وهما: بيرجمان الذي كان متأثرا بمسرح تشيخوف وإن كان بشكل أقل من تأثره بمسرح ستريندبرغ، وكذلك وودي آلان الذي يضع تشيخوف بجانب بيرجمان كاثنين من أكثر المفضلين لديه.

يستحيل أن نحكم على بيرجمان المخرج دون أن نتطرق إلى بيرجمان الكاتب، فلا يمكن أن نتحدث عن واحد منهما دون الحديث عن الآخر، وذلك لأن بيرجمان يتميز بكتابة شديدة الخصوصية تقابلها طريقة ومنهج إخراجي فريد يتوافق مع أسلوب كتابته، ولذا فإن إخراج أحد سيناريوهات بيرجمان من قِبل مخرج آخر يسلب السيناريو كثيرا من جمالياته، وهو الأمر الذي شاهدناه في بداية الألفية مثلا مع فيلم Faithless الذي أخرجته زوجته السابقة ليف أولمان.

وبيرجمان ككاتب سيناريو يعتمد على كثير من مفاتيح المسرح التشيخوفي القائم على رصد التفاعلات النفسية، فأفلامه - في أغلبها - تعتمد على الشخصيات كمحرك أساسي للعمل كخط يسير عليه، والأحداث تكون كوسيلة دعم ليس إلا، وهو الأمر الذي نشهده خصوصا في أفلام مثل Wild Strawberries وCries and Whispers وAutumn Sonata وغيرها، ولذا فإنه لا يوجد في أفلامه حبكة قصصية بالمعنى المتعارف عليه، ولكن يوجد شخصيات وكذلك موضوعات مطروحة يتم تناولها بناء على تأثيرها على الشخصيات نفسيا وعصبيا، والحدث يكون كالفواصل بين الكلمات، مهم ولكنه ثانوي في الظل! لكن تأثر بيرجمان بالمسرحي السويدي العظيم ستريندبرغ أثر كثيرا على سينماه كما أثر على مسرحه، ولذا فإنه اقتبس من ستريندبرغ فكرة اللاشعور التي يتمكن من خلالها من إيضاح مدى الاضطراب السلوكي الذي تعاني منه شخصياته، وهو بذلك يخلط «الوعي» الذي تمثله الأفعال «باللاشعور» الذي يتجسد في مدى اضطرابات هذه الأفعال بالنسبة إلى الشخصيات، وهو أمر نراه تحديدا في Persona.

أما الأميركي العجيب وودي آلان فهو حالة فريدة من نوعها، بدأ كوميديا، وانتصف سينمائيا، ومر في أثناء هذا كله بتجارب متنوعة غاية التنوع. فمن الصعب أن تجد كوميديا يُعجب غاية الإعجاب ببيرجمان وتشيخوف! إنه اختيار غريب، لا يمكن أن تتوقعه، ولكنه حدث مع وودي آلان، ولذا فإنه اقتبس من تشيخوف وبيرجمان الكثير من الأفكار والمبادئ، ولكن ما ميز وودي أنه لم يكن سوداويا مثلهما، بل كان ساخرا، بل إنه من أعظم السـاخرين في السينما بجانب الإيطالي فيدريكو فيلليني. ولذا كانت سينماه فريدة من نوعها، فهو يعتمد على الشخصيات أيضا، فأفلامه كلها قائمة على الشخصيات والحوارات والتفاعلات، ولكن في قالب ساخر، فهو ينظر إلى شخصياته بنظرة الكوميدي الذي يعشق بيرجمان وتشيخوف، فيكون مزيجا من العمق في التركيز عليها وكذلك السخرية اللاذعة مما تمر به.

ما يميز مسرح تشيخوف وكذلك سينما بيرجمان وودي آلان أن شخصياتهم في أغلب الأحيان غير واعية، فهي تسير بغير وعي نحو طريق مجهول، مكبوتة في واقعها المرير، طامحة نحو الخروج منه وإيجاد ما يشبه «الحل» لمدى انعزال الوعي الفردي لديها، وهو ما نراه أيضا لدى ستريندبرغ، ولكن بشكل أكثر اضطرابا وخصوصية.

البحث عن الحلول لدى تشيخوف، البحث عن الأجوبة لدى بيرجمان، البحث عن المثير للسخرية في حياتنا لدى وودي، كلها تعبر عن شخصيات ليس لها هوية محددة، تتخبط في عالم معقد، غريب بالنسبة إليها، وتتفاعل معه بناء على ما تفرضه نوازعها ورغباتها ومخاوفها، وتظل في أثناء ذلك تطمح وتبحث عن شيء ما!