سيدات السينما العربية

من عزيزة أمير إلى سعاد حسني

سعاد حسني
TT

لم يستطع المهتمون بالسينما تجاهل أهمية وجود المرأة في هذا الفن، لأن العنصر النسائي شكّل دوما عنصر جذب ورواج لا غنى عنه في هذه الصناعة. لكنهم حاولوا، ولو بطرق غير مباشرة، التعتيم على دور المرأة في تأسيس وتطور السينما، ولذا لا يعرف الكثير من الرجال - الذين لا يعترفون بقدرات المرأة وإمكانياتها - أن من أسس السينما العربية امرأة، وأن من قامت على أكتافهم اللبنات الأولى لتلك الصناعة المهمة والجميلة هم.. النساء! منذ أن أقدمت الفنانة الرائدة عزيزة أمير على مغامرتها الشجاعة بإنتاج أول فيلم درامي مصري هو «ليلى» عام 1927، لتأسس بذلك السينما المصرية وتلهم الرجال المترددين في اقتحام تلك الصناعة الجديدة على التحرك والمغامرة، بل وتشجع بنات جيلها على كسر قيودهن والدخول بقوة إلى عالم السينما. فصار أن هيمنت على السينما في السنوات الثلاثين الأولى من عمرها مجموعة من النساء، الممثلات المنتجات! عزيزة أمير مثلت 22 فيلما، أنتجت أربعة منها، وكتبت ستة، وأخرجت اثنين هما «بنت النيل» عام 29 و«كفّر عن ذنوبك» عام 33، ولقبت بـ«أُمّ السينما المصرية».

في نفس الوقت ظهرت الممثلة والمنتجة والمخرجة أمينة محمد، خالة أمينة رزق، التي عملت مساعد مخرج مع نيازي مصطفى ومثلت وأنتجت عددا من الأفلام، منها «تيتا وونغ» عام 1937.

عام 1929 دخلت الفنانة آسيا داغر مجال الإنتاج بفيلمها الأول «غادة الصحراء» لتسجل حضورا فنيا بالغ الأهمية على مدى خمسين سنة لاحقة، حيث اعتبرت آسيا رائدة الإنتاج السينمائي العالي النوعية، لما تميزت به أفلامها من فخامة ورومانسية ودقة في العمل وتنوع في اختيار النجوم والمواضيع، بما يناسب متغيرات المجتمع ومتطلبات كل مرحلة. ولعلها المنتجة الوحيدة في العصر الذهبي للسينما التي استطاعت أن تقنع مجموعة من ألمع نجوم السينما، في تلك الفترة، للظهور في فيلم واحد هو «رد قلبي»، وكررت ذلك في فيلم «الناصر صلاح الدين». وقد مثلت آسيا 14 فيلما قبل اعتزالها التمثيل عام 46 لتتفرغ للإنتاج، حيث أنتجت 49 فيلما، أصبح الكثير منها علامات بارزة في تاريخ السينما العربية.

في نفس الفترة تألقت ممثلة ومنتجة أخرى هي ماري كويني، التي عملت مونتيرة في بدايتها ثم ممثلة في عشرين فيلما، ومنتجة لمجموعة ضخمة من الأفلام البارزة والمتميزة في عالم السينما، ومن أفلامها: «أُمّ السعد»، «عودة الغائب»، «الزوجة السابعة»، «نساء بلا رجال».

أما المنتجة والممثلة والموسيقية والمؤلفة بهيجة حافظ فقد أسست شركة إنتاج سينمائي باسم «فنار فيلم»، وأنتجت ومثلت ووضعت الموسيقى لمعظم أفلامها، مثل: «زينب»، «الضحية»، «ليلى بنت الصحراء»، «الاتهام».

الممثلة المسرحية الشهيرة فاطمة رشدي مثلت 15 فيلما وأنتجت مجموعة أفلام، منها: «مدينة الغجر» عام 45، و«الطائشة» عام 46. واستمر ذلك الجهد النسائي حتى نهاية الأربعينات حين دخلت بقوة الفنانة مديحة يسري، لتضع هي الأخرى بصمتها كممثلة ومنتجة لأفلام كثيرة، منها: «الأفوكاتو مديحة»، «أرض الأحلام»، «إني راحلة»، «اعترافات زوجة»، «سكون العاصفة»، «صغيرة على الحب»، «دلال المصرية».

ثم في الخمسينات تألقت الفنانة ماجدة كممثلة وأسست شركة للإنتاج، أنتجت العديد من الأفلام المهمة مثل «أين عمري» و«جميلة».

وقد لعبت هذه المجموعة الفذة من النساء دورا مهما وكبيرا في تطور الإنتاج السينمائي، مما استحق بجدارة أن يطلق على عصرهن «العصر الذهبي للسينما». ولعل أبرز ما ميز هؤلاء المنتجات:

- كُنّ فنانات ولسن تاجرات، والدليل أنهن تركن التمثيل (وهو مصدر ربح أيضا) وتفرغن للإنتاج (آسيا وماري كويني) أو لم يمثلن في كل الأفلام التي أنتجنها (مديحة يسري).

- أنتجن كل أنواع الأفلام التي تراوحت بين الاجتماعية والميلودراما والرومانسية والاستعراضية، وحتى التاريخية. وقد اختير العديد منها ضمن «أحسن مائة فيلم مصري»، وأصبح أغلبها من كلاسيكيات السينما.

- قدمن للفن مواهب كثيرة (في التمثيل والإخراج)، أصبحت فيما بعد رموزا في السينما والفن عموما.

- عملن دون ضجيج وأنفقن من أموالهن الخاصة بدافع الفن وليس مبدأ الربح والخسارة. والمثال الواضح هو إنتاج آسيا للفيلم التاريخي الضخم «الناصر صلاح الدين»، الذي أعلنت إفلاس شركتها بعده.

أما بالنسبة لدور النجوم فمن المعروف أن السينما تقوم على ثلاثة عناصر أساسية، مترابطة بعضها مع بعض: الإنتاج والتوزيع والنجوم. فلا تتم عملية الإنتاج دون الموزع، والموزع لا يقبل أي فيلم دون أسباب نجاحه، وأحد أهم أسباب نجاح الفيلم هو النجوم! وقد توهجت السينما العربية في عصرها الذهبي بحضور نسائي طاغ على صعيد النجوم.

ففي بداية العصر الأول للسينما كان الناس يذهبون إلى السينما بدافع الفضول والاستطلاع، ولكن بعد دخول الصوت على الشريط السينمائي واعتماد المنتجين على نجوم الطرب والغناء في بطولة أفلامهم، صار للسينما جمهورها وللجمهور نجومه الذين يحبهم ويتابعهم، مما أكسب هؤلاء النجوم شهرة وشعبية أدتا إلى زيادة ثقلهم الفني وتأثيرهم في سوق التوزيع وشبّاك التذاكر. وهكذا بدت السينما العربية في الأربعينات غنائية استعراضية، عموما، أغلب نجماتها من المطربات أو الراقصات، فبعد المطربة الأكثر شهرة أم كلثوم ثم أسمهان، برزت ليلى مراد، وصباح، وشادية، ونور الهدى، ونجاح سلام، ونجاة علي، وهدى سلطان. ومن الراقصات تحية كاريوكا، وسامية جمال، وهاجر حمدي، ونعيمة عاكف، وكيتي. حتى الطفلة، آنذاك، فيروز كانت تغني وترقص في أفلامها! ومع ذلك تألقت مجموعة من الممثلات، مثل: عزيزة أمير، ماري كويني، مديحة يسري، ليلى فوزي. وشكلن حضورا نسائيا ناضجا في أفلام تلك الفترة، ولهذا كان ظهور فاتن حمامة، نهاية الأربعينات، حدثا استثنائيا؛ لكونها صغيرة السن، مراهقة، توفرت فيها ملامح الشخصية التي تناسب عقلية الجمهور وترضي ذوقه، حيث يريدها وديعة، مطيعة، قليلة الحيلة، خجولة، خفيضة الصوت، جميلة دون استفزاز، تغامر بلا تهور، وتستسلم بلا عناد. وقد تميز أداؤها بالعفوية وردود أفعالها بالعقلانية، وهي أيضا لا ترقص ولا تغني ولا تلجأ إلى الكباريهات في أوقات الشدة والأزمات، كما يحدث للبطلات في أفلام تلك الفترة، بل تمتهن حِرفا أكثر واقعية وقبولا مثل التمريض والخياطة. ثم إنها مناسبة لأن تكون حبيبة للشباب وزوجة للكبار، راضية أو مرغمة، وهذا ما أفسح المجال لإنتاج العديد من الأفلام الميلودرامية والاجتماعية من قصص محلية وعالمية.

ولاحقا استطاعت فاتن حمامة بذكائها وتراكم خبرتها انتقاء مواضيع أفلامها ونوعية أدوارها بدقة الفنان وحرص الملتزم، فبعد مرحلة الأدوار الميلودرامية والرومانسية في الأربعينات والخمسينات، مثل: «اليتمتين»، «لحن الخلود»، «صراع في الوادي»، «لا أنام»، «دعاء الكروان»، جاءت مرحلة الواقعية الاجتماعية، حيث غيرت فاتن حمامة من نوعية أدوارها وأسلوب أدائها الذي ابتعد عن الرومانسية والشفافية ليلامس خشونة الواقع، فكانت أفلام: «الحرام»، «إمبراطورية ميم)، «أريد حلا»، «لا عزاء للسيدات»، بل وزادها الواقع جرأة فمثلت فيلم «الخيط الرفيع»، وقدمت فيه شخصية نموذجية للمرأة المنحرفة، التي قدمت دائما بشكل مبهرج وصارخ بملامحها وأسلوب تعاملها. وهذا ما مهد لفاتن حمامة أن تتربع على عرش السينما باكرا، رغم جمهرة الممثلات والمطربات والراقصات حولها! وهذا ما مهد أيضا لظهور عدد من النجمات سرن على خطى فاتن حمامة، ليس في التمثيل وإنما في طرح شخصياتهن على الشاشة، مثل مريم فخر الدين، ثم ماجدة التي ظهرت أقل جرأة وأكثر التزاما. وبعكسها هند رستم التي كوّنت لنفسها شخصية متفردة، لم تضاهها فيه أية نجمة عربية أخرى.

في نهاية الخمسينات وبداية الستينات ظهرت آخر دفقة من نجمات العصر الذهبي للسينما العربية، وهي سعاد حسني، التي خرجت عن طريق فاتن حمامة وزميلاتها لتمثل الفتاة العصرية الجريئة، حيث التحرر والعمل والاختلاط، ومعها نادية لطفي، ولبنى عبد العزيز، وسميرة أحمد، وزبيدة ثروت، ثم نبيلة عبيد. وقد أصبحن بمرور الزمن أسماء مؤثرة في عالم السينما، فنيا وماديا.

وكان مجرد وجود نجمة من تلك النجمات في أي فيلم يعتبر ضمانة أكيدة لنجاحه جماهيريا، والدليل أن أشهر المطربين استعانوا بنجمات شهيرات للوقوف أمامهم، ولم يتجرأوا على الوقوف أمام ممثلات ثانويات أو وجوه جديدة، رغم شهرتهم وشعبيتهم! وحصل العكس مع الممثلات النجمات، فقد وقفت فاتن حمامة في فيلم «صراع في الوادي» أمام الوجه الجديد عمر الشريف، اعتمادا على نجوميتها وثقتها بمكانتها. وكذلك النجمة شادية أمام محمود ياسين في أول بطولة له في فيلم «نحن لا نزرع الشوك»! وهذه الكوكبة من الفنانات التي أغنت السينما العربية كما ونوعا، عملت مع أشهر المخرجين ومثلت أمام أبرز الممثلين، وحملن على أكتافهن مسؤولية أعمال كبيرة ومهمة، لم تستطع نجمات هذه الأيام القيام بها - مجتمعات - أو ترك نفس التأثير التي تركته نجمات الزمن الجميل. ورغم ذلك فإن السينما العربية التي حمّلت المرأة جانبا مهما وأساسيا من مسؤولية تأسيسها وتطويرها، ولعبت دورا حاسما في تثبيت دعائمها، لم تنصف المرأة اجتماعيا وفكريا، ولم تغير من النظرة السائدة عنها في المجتمع، لأن كتّاب الدراما وأغلبهم - أو كلّهم - من الرجال قد عمدوا إلى تقديم المرأة بالصورة التي يريدها الرجل، وثبتوها في القالب الذي حشرها به المجتمع، دون محاولة للتغيير أو الإصلاح، فصار من الصعب تغيير هذا الواقع أو التجاوز عنه. وهكذا ظلت مكانة المرأة في المجتمع كما هي، ومصيرها تتحكم فيه عقلية الرجال. إلا أن ذلك لا ينفي أو يلغي دور المرأة في تأسيس وتطوير تلك الصناعة المهمة والجميلة، ألا وهي السينما.