دلالات الصورة وجدلية «الواقعية » في الإنتاج السينمائي

المخرج الجيد هو الذي «لا يشرح ما يحدث أمام المشاهد»

أورسن ويلز مخرج الفيلم الشهير «المواطن كين» («الشرق الأوسط»)
TT

يقرر أورسن ويلز أن «الكاميرا هي عين المخرج»، العين التي ينظر من خلالها، ويُكوِّن صوره، ويجمع لقطاته، ويبني مشاهده. وبما أننا نشاهد العمل عن طريق الكاميرا، التي هي عينه، فمن الضروري أن نعلم بأي عين يشاهد المخرج ما أمامه. يُقال إن الدراما هي فنُّ التحريف، سواء في السينما أو المسرح، لأنها تُعدِّل كثيرا في شكليات الواقع، وتعبث بصورته. ففي المسرح تكون الخشبة انعكاسا للصورة الواقعية التي يدور من خلالها العمل، أما في السينما فهي الكاميرا، وكل ما هو خارجٌ عن أطرها الأربعة، فلا قيمة له، لأنه لا يظهر. ولذا فهي تحريف، لأن المخرج في السينما ينظر من خلال كاميرته ـ التي هي عينه كما يقرر أورسن ويلز ـ إلى ما يشاء، وكيفما يشاء، ومتى ما شاء. يستخدم الصورة ليُوجِّه المشاهد لما يريده أن ينظر إليه، ويصرف نظره عن كل شيء لا يريده أن يراه؛ بأن يُبعده عن الأطر الأربعة. ولذا فإن العمل السينمائي في الحقيقة لا يعكس الواقع، وإنما يعكس رؤية الكاتب والمخرج لهذا الواقع! وهنا نشأت جدلية «الواقعية» كمفهوم غير واضح، ينقض الحجة التي يحتجُّ بها السينمائيون والمسرحيون دائما. ولكن بغضِّ النظر عن كل هذا؛ فإن الدراما ـ وخصوصا السينما ـ ظلَّت من أكثر الفنون القريبة جدا من واقعية الحياة التي نمارسها، حيث الصورة والصوت والممثلون وكل ما من شأنه أن يجعلنا نشعر بأنها قريبة منا، وشبيهة بنا. وهنا يكمن أحد الأسباب الجوهرية التي منحها الأهلية لأن تكون «فن العصر». وبالنسبة للدراما عموما، فهي تختلف عن النصوص الأدبية بقدرتها على العمل في مستويات متعددة لا حصر لها. ففي النص الأدبي لا يتمكَّن الكاتب سوى من رصف مادته بشكل استطرادي متتابع تبرز من خلاله نتيجة الفعل، أما في الدراما فالأمر مختلف تماما. فالفعل قد يدلُّ عن طريق الصوت أو التمثيل أو الإيماءات على شيء آخر غير الذي نراه. ففي النص الأدبي حينما تدخل الشخصية على شخصيات أخرى قائلة «صباح الخير»؛ فإنك تنتظر كقارئ بقية السرد لكي تتعرف على حقيقة مضمون هذا الفعل. ولكن في الدراما حينما يدخل قائلا «صباح الخير»؛ يتبيَّن في ذات الوقت الذي يقولها فيه مضمون فعله عن طريق نبرة صوته أو إيماءته أو حركته. وبالتالي فإن السينما تحمل أبعادا متعدِّدة في اللحظة الواحدة، بعكس الرواية التي لا تملك سوى بُعد واحد هو الوصف السردي. ولذا فإن أشياء كثيرة قد تحدث في لحظة واحدة في السينما، قد نشاهده يقول «صباح الخير» بنبرة بهيجة، إلا أنه يتضح لنا من ملامحه أنه يصطنعها، كما أنه يُمسك في يده بشيء يحاول تخبئته. كل هذا في لحظة واحدة. ولذا فإن الأبعاد التصويرية في السينما لا حصر لها بفضل أدواتها المتعددة. ولهذا فالسينما فنُّ الصورة، لأن الصورة في السينما تماثل الراوي في الرواية، هي التي تقوم بكل شيء. ولذا فالسينما الصامتة تعدُّ ميدانا خصبا لدارسي جماليات الصورة السينمائية، لأنها تكشف عن أقصى الإمكانيات التي تستطيع الصورة أن تصل إليها في دلالاتها. إلى أن جاء الصوت، الذي رفضه كثيرون في البداية كتشارلي شابلن مثلا، إذ رأى فيه قتلا صريحا لجمالية الصورة السينمائية، وشرحا لكثير مما يجب أن يكون مشروحا عن طريق الصورة. لأن السينما ـ كما يرى ـ صورة! ولهذا فالمخرج الجيد هو من يستفيد أتمَّ الاستفادة من دلالات الصورة في السينما، لا يجب أن تكون مُكمِّلة فقط، بل يجب أن تكون أساسية. فالمخرج الجيد هو الذي لا يشرح كثيرا ما يحدث أمام المُشاهد، يجب أن يستفيد من دلالات الصورة ليجعلها تكشف عن الأشياء من حوله، ويبني من خلالها مفهوما معينا حول شخصية من شخصياته أو فعل من أفعالها أو حدث من الأحداث التي تمارسها، كأن يجعل قطعة أثاث تُمثِّل رمزا لكوامن الشخصية، كما فعل كايسلوفسكي في رائعته Three Colors: Red عندما جعل كل قطعة أثاث في شقة أوجست تدلُّ دلالة مباشرة على شخصيته، أو يُرسل إيحاءات خاطفة تدل على حالة معينة لا يكشف عنها الحوار أو السرد. كما فعل أورسن ويلز في Citizen Kane في آخر الفيلم؛ حينما جعل كلمة «روزبد» التي هي مفتاح اللغز مكتوبة على عربة الجليد المحترقة، مما يدل دلالة معينة قد تكون سببا في كشف لغز الكلمة وارتباطها بالشخصية. ولذا يجب أن يُكثر المخرج من استخدام هذه الدلالات، لأن السينما فن الصورة، الفن الذي لا يحتاج إلى كثير من الكلام والشرح، لأن الصورة يجب أن تتحدث عن هذا كله. يجب أن تكون لقطة واحدة لغرفة الشخصية كفيلة بشرح الكثير من خصائصها. ولأن هذا أيضا يجعل المُشاهد يُؤوِّل هذه الدلالات التي يشاهدها أمامه وكأنه جزء من الحكاية، متورط مع شخصياتها وأحداثها. وكأنه شخصية وهمية تقف في الظل لتراقب كل شيء يدور أمامها، ولم يعُد حينها مجرَّد مشاهد يتلقى الشرح الصريح في كل لقطة تمرُّ عليه. ولذا فإن الكاتب الجيد، والمخرج الجيد، هما اللذان يفتحان المساحات لهذه الميزة العظيمة، ويقللان من الاقتراحات الشخصية التي تُبديها شخصياتهما، ويستفيدان من الصورة ودلالاتها كجوهر للسينما الحقيقية.