قراءة لأفلام مجموعة تلاشي السينمائية

قدموا أعمالا كشفت عن مواهب تستحق الدعم والتشجيع

مشهد من فيلم شروق/غروب («الشرق الاوسط»)
TT

في الخامس عشر من شهر أبريل (نيسان) في الليلة الختامية لمهرجان الخليج السينمائي الثاني، كان أعضاء مجموعة «تلاشي» السينمائية من الشباب السعوديين يحتفلون ويلتقطون الصور التذكارية بعد أن توج أحد أفلامهم بالجائزة الثالثة لأفضل فيلم قصير في المسابقة الرسمية. وتم أيضاً تكريم هذه المجموعة الشابة بشهادة تقديرية من لجنة التحكيم استلمها رئيس المجموعة الكاتب فهد الأسطاء لدورها في إنشاء سينما شبابية مستقلة في المملكة العربية السعودية ولما تميزت به أفلامها من جرأة وتجديد في الطرح.

ثمانٍ وستون دقيقة كانت هي حصيلة عام كامل من العمل المتواصل، موزعة بالتفاوت الزمني على سبعة أفلام لسبعة مخرجين، وهو ما يعني أن أفراد مجموعة «تلاشي» السينمائية، كان لديهم إصرار على أن تظهر أعمالهم الأولى ـ تحت شعار المجموعة ـ في أفضل صورة ممكنة، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن زمن بعض الأفلام لا يتجاوز الثلاث دقائق، بل كان من المفترض تقديم ثلاثة أفلام أخرى لأعضاء المجموعة الآخرين، الذين اكتفوا هذه المرة بالمشاركة في أعمال زملائهم فقط، على أن يقدموا أفلامهم الخاصة في العام التالي مثل تركي الرويتع الذي تخصص في عملية التصوير والمونتاج لأفلام المجموعة بعمل لا ينقصه الجهد والموهبة، وحسام البنا المتخصص بالتصوير والجرافيك وتصميم شعار المجموعة وحتى بوسترات الأفلام السبعة، وهو ما يذكرنا في الوقت نفسه بنجاح عملية العمل الجماعي القائم على أساس من الموهبة والخبرة المتبادلة.

تلك الدقائق التي تجاوزت الساعة بقليل، عَرضت سبعة أفكار مختلفة ومتباينة عكست رؤى مخرجيها، والنتيجة مبشرة إلى حد كبير، خاصة لمن خاضوا تجاربهم الأولى.

وكانت هذه المجموعة قبل أن تتوجه للمشاركة في مهرجان الخليج بدورته الثانية بدبي قد أقامت عرضاً خاصاً في أحد فنادق الرياض دعت له مجموعة من المثقفين والإعلاميين والفنانين والمهتمين بالشأن السينمائي. وتسنى لي حينها حضور تلك المناسبة الجميلة بتنظيمها وحضورها وفعاليتها التي تعتبر منشطاً ثقافياً وفنياً مهماً.

مستويات متباينة: الفيلم الأول من مجموعة أفلام «تلاشي»، هو فيلم «مشروع» إخراج عبد المحسن المطيري، وهو يتحدث عن فكرة اعتيادية تدور حول شخص ما، يقوم بإعداد مشروع عمل، ولكن تقابله عقبات تنتهي بعدم قبول مشروعه لدى الجهة المنفذة، ومعالجة الفيلم لا تخدم فكرته كثيراً، بحيث إنها تركز فقط على إظهار الرجل في صورة «المُحبَط»، دون أن ندخل في أي تفاصيل حقيقية مهمة، فالحدث ساكن طوال الوقت دون أن يتصاعد على الإطلاق، وهناك العديد من المشاهد التي لو تم حذفها لما أثرت إطلاقاً على الفيلم، مثل مشهد نزول الرجل إلى سيارته والسير بها على خلفية موسيقى فيلم «Oldboy»، دعك من أن الموسيقى لم تكن مناسبة سواء في ذلك المشهد أو في أغلب أوقات ظهورها، فهناك مشكلة حقيقية في الفيلم تتمثل في الأداء، حتى في أداء الممثل الأشهر في المجموعة نواف المهنا الذي يُظهر أداءً أفضل في الأفلام الأخرى، وهو ما يعني أن المخرج لم يكن موفقاً في إدارة ممثليه، وربما لجأ أحياناً لعدم إظهار وجوههم للإفلات من تلك المشكلة، ولكن الأمر لم يفلح تماماً. ينتهي الفيلم دون الوصول لحل، ويختار المخرج أكثر الطرق مباشرة في ترجمة ذلك، عندما يضعنا أمام شاشة تلفزيون لا يوجد بها سوى بث فارغ بدون صورة.

في فيلم «ظل» لمحمد الحمود، نسمع صوت مكالمة تليفونية طويلة، قبل أن تظهر الصورة، نجد فتاة تتحدث في الهاتف وتبحث بين أدراجها وأشيائها عن شيء ما. اللافت أنه قبل أن تظهر الصورة لم نسمع صوت تلك الحركة التي تحدثها أثناء البحث، قد يكون خطأ غير مقصود، وقد يكون قد تعمده المخرج لتأكيد مباشر لمعنى «الظل»، وهو ما يجعل الفيلم يبدأ فعلياً في الظلام قبل أن تبدأ الصورة.

الكاميرا ترصد فتاة مراهقة على مدى عدة دقائق، ثم تتركها وتذهب إلى فتاة أخرى، ترتدي ثيابها وهي تتحرك ناحية باب المنزل، إلى أن تضع النقاب أو «غطاء الوجه»، ويركز المخرج على تلك التفصيلة بـ«slow Motion» أو بالتصوير البطيء، إلى أن تتحول الفتاة إلى كتلة جامدة من السواد وتختفي في الظل، وكل ذلك في لقطة تصوير متصلة دون قطع. ربما أراد المخرج التعبير عن مشكلة زواج الصغيرات والحجاب واختزالها في لقطة واحدة، ولكنه في المقابل لم ينجح في توصيل أي تأثير سلبي أو إيجابي إلى الجمهور، حيث إن ما قدمه لم يفهمه الكثيرون واعتبروه مجرد رصد أو تصوير حدث يومي تقليدي، والحقيقة أن معالجة الفكرة كانت بسيطة أكثر مما يلزم، وتحتاج إلى ما هو أكثر مما قدمه الفيلم.

أما مشكلة فيلم نواف المهنا «آخر يوم»، فبدأت من اختياره لعنوان الفيلم الذي كشف نهايته للمتلقي، إضافة إلى أن جميع الأحداث – عدا المشهد الأخير – لا تخدم الفيلم في شيء، ربما لو أراد المخرج أن يصور آخر يوم في حياة شخص، لملأها بالتتابعات المهمة عبر إيقاع متصاعد، حتى نصل إلى نقطة الذروة بوفاة الشاب، لأن المتلقي في تلك الحالة كان سيهتم بمتابعة القصة، وسيفاجأ فعلاً بموت بطله حتى لو كان على علم بمصيره، بعكس أن تظل الأحداث هادئة وتتوقع موت الشاب بين لحظة وأخرى، وتستقبله دون رد فعل عند حدوثه. وما يحسب للفيلم هو أداء نواف للمشهد الأخير، وأنه لم يحمل رسالة وعظية مباشرة كالتي تظهر في إعلانات التلفاز، ولكن المشكلة أنه أيضاً لم يصل إلى شيء يجعلنا نتوقف أمامه.

«ثلاثة رجال وامرأة» لعبد المحسن الضبعان يقول الكثير من الأشياء، ربما أكثر مما يتسع لفيلم قصير تجاوز العشر دقائق بقليل، ولكن هناك ميزة أساسية تكمن في أنه يقول كل تلك الأشياء بتكثيف ودون ثرثرة – بالرغم من أن شخصيات فيلمه الثلاث لا تتوقف عن الحديث – الفكرة الأساسية تكمن في تسليط الضوء على غياب دور المرأة في المجتمع السعودي «عموماً» و«الفني» خصوصاً، لكنه أيضاً يتطرق إلى علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة الفرد بالمجتمع، كل ذلك من خلال قصة بسيطة لبعض الأصدقاء يحاولون صناعة فيلم قصير، ومن خلال ذلك يتطرق المخرج أيضاً إلى أزمة صناعة السينما في السعودية، وأزمة عقلية صناع الأفلام أنفسهم التي أصبحت لديها رقابة داخلية أكثر حدة وتطرفاً من رقابة المجتمع ورجال الدين، بل وعن كونهم لديهم الكثير من الأفكار والمعلومات حول تاريخ السينما في جميع أنحاء العالم، ويريدون تقديم كل ذلك في فيلم واحد، وهو ما كاد يقع فيه مخرج الفيلم نفسه. في النهاية، فإن الفيلم يقدم فكرته التقليدية في معالجة مكثفة وحوار مضحك بالفعل، وكل ذلك في إيقاع محكم.

هناك أيضاً معالجة كوميدية طريفة، ولكن لمشكلة إغلاق المحلات أثناء الصلاة هذه المرة، من خلال فيلم «حسب التوقيت المحلي» وهو من إخراج محمد الخليف. في البداية هناك مشهد طويل لشابين جالسين في مطعم ترصدهما الكاميرا من الخلف، يدخلان في نقاش طويل ومضحك حول علاقة هوية المطعم بهوية العمال فيه، مشكلة ذلك المشهد أنه لا يمثل إضافة حقيقية لأحداث الفيلم، بقدر ما هو مقدم لإثارة الضحك، وهو يشبه مشهد حوار جون ترافولتا وصامويل جاكسون في فيلم «لب الخيال» حيث ظلا يتحدثان في بداية الفيلم أيضاً عن المطاعم السريعة وعما تقدمه من وجبات، وهو ما يعكس شغف المخرج بترانتينو.

يبدأ الفيلم فعلياً عندما يدخل شاب آخر يريد وجبة ولكن العمال يخبرونه أنه لا يوجد وقت كافٍ لأن موعد الصلاة بعد نصف ساعة، ثم ينطلق الشاب في رحلة لإشباع جوعه دون فائدة، حتى عندما يقف أمام فندق ويحاول أن يقنع الحارس أنه سوف يدخل للوضوء فقط يفشل في ذلك. يتحرك الشاب وعلى وجهه خيبة أمل فتبدأ تترات النهاية، إلا أنه يحاول أن يطيل من مدة الفيلم الزمنية بإعادة الصورة مرة أخرى، ولكن يأتيه صوت خارجي بأنه موعد الصلاة لينتهي الفيلم بالفعل، مع صوت أذان مميز للغاية يعكس ثقافة المحيط الذي يتحدث عنه الفيلم. معالجة بسيطة جداً لمشكلة حيوية في السعودية، لكن ربما لو كان المخرج استبدل الشاب الجائع بآخر مريض يحتاج إلى علاج وتنغلق أمام وجهه الصيدليات لبات تأثير الفكرة أكثر قوة، ولكن هذا لا يمنع أن المخرج وُفّق في طرح المشكلة ببساطة ودون تكلف.

أقصر الأفلام في مدتها الزمنية هو فيلم حسام الحلو «مابي»، حيث لا يتجاوز الثلاث دقائق، وهو أكثر الأفلام إخلاصاً لفكرة الفيلم القصير، فهو يقدم فكرة شديدة الأهمية من خلال معالجة شديدة التكثيف بالصورة فقط ومن دون كلمة واحدة، حيث ترتفع أهمية الموسيقى إلى درجتها القصوى. الفيلم يقدم فكرة الرفض والاحتجاج والصراع بين ثقافة الموروثات والتقاليد السعودية، وبين ثقافة كل ما هو عصري و«غربي»، كلتا الثقافتين ترفض الأخرى بأداة رفض مختلفة، ولكن لأن الأسلوب العصري أصبحت له أدوات شديدة الجرأة ـ ومثيرة للتقزز أحياناً ـ فهو يستطيع أن يفرض ثقافته على الآخر.

أما أطول الأفلام في مدة عرضه – والمفارقة أنه أفضلهم في الوقت ذاته – فهو فيلم محمد الظاهري «شروق/غروب»، الذي حاز أخيراً على المركز الثالث في فئة الأفلام القصيرة، ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان الخليج السينمائي، فالمخرج يختار من البداية أن يسمي فيلمه (شروق/غروب) وليس (شروق «و» غروب)، هو لا يبحث عن الاستمرارية، بل يبحث عن وقت زمني محدد ومحكم للغاية، ليرصد يوماً واحداً فقط أو ربما بالأحرى «عدد ساعات النور» في حياة أحد الأطفال، كي يترك لخيالنا أن نتصور ما يمكن أن تكون عليه حياة ذلك الطفل في المساء، عندما يخيم عليه الظلام.

يؤسس المخرج لإيقاع فيلمه منذ اللحظة الأولى، ففي الوقت الذي تظن فيه كمتلقٍّ أن هناك عطلاً فنياً ما في آلة العرض، تكتشف بالتدريج أن الفيلم قد بدأ بالفعل، وأنك تطالع شروق الشمس في مدة زمنية شبه مماثلة للواقع من خلال نافذة منزل الطفل، وينتهي الفيلم ونحن نرقب غروب الشمس من خلال نافذة أيضاً، ولكنها نافذة صغيرة محكمة بالحديد حيث يجلس الطفل أسفلها، محجوزاً في أحد مكاتب هيئة الأمر بالمعروف، الجلسة نفسها التي طالعناه عليها في منزله عند البداية، ذلك الإيقاع المتمهل – الذي لم يرُق لكثير من المتلقين – استطاع أن يخلق حالة ثقيلة وضاغطة على نفس المشاهد، ليجعله يشعر أكثر بمأساة الطفل، يزيد ذلك عندما يتم استخدام اللونين الأسود والأبيض وزوايا التصوير المائلة، التي تعكس وعياً كبيراً لأهمية التصوير وتكوين الكادر لدى المخرج، ذلك الضغط يتزايد عندما تجد أن الفيلم يعتمد على لغة الصورة وحدها في أغلب الأحيان، فمشاهد الفيلم مؤسسة لتكون بصرية في المقام الأول، أما الحوار فهو يمثل وسيلة ضغط إضافية على ذلك الطفل وعلى المتلقي في آن، حيث لا نسمع سوى صوت (المدرس – الراديو – المُتحرش – رجال الهيئة – الشارع)، تلك التركيبة من الإيقاع والتصوير والصمت هي التي أنتجت حالة شديدة الخصوصية ونجحت في أن تصل إلى المشاهد.

يرصد السيناريو آلية القهر التي يتعرض لها الطفل في كل مكان يذهب إليه بداية من منزله، ثم في المدرسة التي تعتمد مناهجها على الحفظ أولا وأخيراً، واستخدام المدرسين لسلطتهم في قهر التلاميذ بضربهم حتى تدمى أيديهم، ليتلقفه الشارع الذي يعمل به بائعاً للمناديل لمساعدة أسرته الفقيرة، الشارع الذي لا يرحم ولا يتوقف أحد من المارين لمساعدته، بل للتحرش به وقهره وانتهاك إنسانيته، حتى يطارده بعض رجال الهيئة للقبض عليه، بدلا من القبض على الجاني، رجال الهيئة الذين يحاولون إجباره على الاعتراف بالتهديد واستخدام العصا، بدلا من التقرب إليه وجذبه بقطعه حلوى يلوكها أحدهم باستمتاع.

ربما ما كان زائداً على السياق، أن يتم عرض آلية القهر السياسي في خلفية الموضوع من خلال صوت الراديو، لأنه إسقاط بعيد عن إطار العمل، فاستخدام الراديو كان كافياً للتعبير عن الضغط الديني في بداية الفيلم، هناك أيضاً أخطاء طفيفة تنحصر أغلبها في الـ«الراكور»، ولكن ظروف تصوير الفيلم التي امتدت إلى أربعة شهور كاملة، يتخللها فترات توقف طويلة، تجعلنا نتغاضى تماماً عنها، خاصة أن معظم أجزاء الفيلم تم تصويرها في الشارع، وهي خطوة جريئة للغاية تحسب للمخرج من دون شك.

واستخدم المخرج أيضاً أساليب صادمة للمتفرج ـ المحافظ ـ على وجه الخصوص، فأغلب ردود الأفعال قامت بالتركيز على مشهد التحرش، معتبرة أنه كان خارج حدود السياق وربما – اللياقة – بالرغم من أنه لم يحو على أي تناول مباشر لما حدث، ذلك الأسلوب الصادم لم ينتهجه المخرج سوى لإيصال «الحالة الضاغطة» التي بدأها منذ البداية، والتي تزيد من الإحساس بآلية القهر التي يعاني منها الطفل طوال اليوم، وهي ما تدفع «المتلقي السلبي» إلى أن يُبعد نظره عنها، تماماً كما يفعل أثناء مروره في الشارع متغاضياً بإرادته عما يحدث.

الدقائق التي تجاوزت الساعة بقليل، التي قدمتها مجموعة «تلاشي»، كانت بالتأكيد تستحق المشاهدة، وقد عكست وعي جميع أعضائها العشرة، الذين أثبتوا أنهم يمتلكون مواهب حقيقية يجب أن يحافظوا عليها، مهما تعثر البعض في أخطاء التجارب الأولى، فهم يستحقون أن ينالوا الدعم المناسب، ليستطيعوا تقديم أعمالهم ويستمروا على الطريق الشاق الذي اختاروه لأنفسهم.

[email protected]