يحيى الفخراني.. الإبداع على قارعة الطريق

يخاصم السينما ويعيش لحظته الفنية بطفولة شديدة

يحيى الفخراني («الشرق الإوسط»)
TT

نجومية بعيدة عن حسابات السوق، وموهبة استثنائية يتعامل معها لتحقيق الحد الأقصى من النشوة الفنية، وتحت ظلال هذه النجومية يبحث عن رسالة تملأ تجاعيد المجتمع بدفقة من قيم النور والتنوير.. إنه يحيى الفخراني الطبيب المتمرد على مهنته وهيئته، من حطم أصناما عديدة وقفت في طريق إبداعه، حتى لو كان الجزء الأكبر من هذه الموهبة ملقى على قارعة الطريق. يعيش الفخراني لحظته الفنية بطفولة شديدة، ويمتلئ بها إلى حد الإحساس بأنها لحظة ميلاده الأولى، وبالرغم من ذلك من الممكن أن تغفل عنه أجيال قادمة، ليس بوسعها استرجاع ساعات طويلة من الدراما التلفزيونية، خاصة في ظل حالة من الخصام الطويل عاشها الفخراني مع السينما، كان أبرز نتائجها السلبية بعده عن أرشيفها الدافئ الذي يضمن الخلود.

الفخراني المولود في 17 أبريل (نيسان) 1945 لأسرة متوسطة الحال بمدينة «ميت غمر» التابعة لمحافظة الدقهلية بشمال مصر، بدأت موهبته الفنية في الثورة وهو على أعتاب دخول الجامعة، لكن والده رفض دراسته للتمثيل فدخل كلية الطب بجامعة عين شمس، ولمع اسمه في فريق التمثيل المسرحي هناك، وزاد حبه للفن، ثم كانت محطته الأهم عندما تعرف على زميلته لميس جابر أثناء مشادة كلامية نشبت بينه وبين المسؤولين عن عرض مسرحي لبرنارد شو كان يقوم ببطولته، فتسبب خطأ إداري في غضبه الشديد وترك المسرح، فلحقت به لميس وأقنعته بالعودة مرة أخرى، عاد الفخراني إنسانا آخر، عاصفة من التصفيق بانتظاره، وشعلة من المشاعر الدافئة تجتاح قلبه تجاه لميس، حافظت الأيام على توقدها، فعاشا معا لما يقرب من أربعة عقود من الفن والسعادة.

طوال ست سنوات في الجامعة تعايش الفخراني مع الفن كهاو، ثم تخرج طبيبا للأمراض النفسية والعصبية وحصل على الماجستير، وقضى فترة من الزمن معينا بوزارة الثقافة، ثم اتحاد الإذاعة والتلفزيون قبل أن يتفرغ للفن نهائيا ويهجر الطب، ليبني تاريخا قوامه أكثر من 40 فيلما، ويدشن نفسه فارسا أول للدراما التلفزيونية، يتربع على عرشها وحده طوال عقدين، ثم متحديا أعظم لمناخ يلفظ المسرح، فيغامر بعروض شائكة مثل «الملك لير» الذي فشل عرضه حتى في بريطانيا أم المسرح، ومستغلا ورطة الرئيس السابق كلينتون مع مونيكا ليقدم «كيمو والفستان الأزرق» عن الانتهاك الجنسي والعلاقة بين الرجل والمرأة من دون أن يخدش حياء المشاهد.

للفخراني منطقه الخاص في التعامل مع الفن، فهو شديد الإيمان بما يقدمه، لا يقبل أن تفرض عليه رؤية لا يقتنع بها، ولا يتردد في الاعتراف بالخطأ لو أساء الاختيار، ولا يجد حرجا في الاعتذار عن سوء اختياراته. في فيلم المصير مثلا كان مرشحا للدور الذي قدمه نور الشريف، ولم يعجبه الحوار، بالرغم من إيمانه برسالة الفيلم التنويرية وترسيخها لمبدأ أن الفن خير علاج للتطرف إلا أنه أصر على رأيه، ورضخ يوسف شاهين لرؤيته ثم اختلفا على بنود في العقد وفشل مشروع التعاون بينهما.

عقب الانتقادات الواسعة التي تلقاها عن دوره في مسلسل «المرسى والبحار»، وعدم ملاءمة الدور لسنه، اعترف بخطئه في الاختيار واعتذر عن ذلك.

بينه وبين السينما خصام طويل، تقطعه بعض فترات الود الخاطف، يقدم خلالها ما يريد، لكنه لا يكفي أبدا لتوثيق كل إبداعه، بالرغم من النجاح الفني الاستثنائي لبعضها، ومنها «الكيف» (مشهد العزاء بات من كلاسيكيات السينما ومن أفضل مشاهد كوميديا الموقف في تاريخها)، كما كان أداؤه لآخر أدواره (المعاق ذهنيا) منذ عشر سنوات تقريبا في «مبروك وبلبل» للمخرجة ساندرا مذهلا، وتحولت أفلام أخرى مثل «خرج ولم يعد» و«إعدام قاضي» و«حب في الزنزانة»، إلى علامات، بل ودخل بعضها قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وأهلته نجاحاته السينمائية للعديد من الجوائز المهمة منها «جائزة مهرجان قرطاج عن فيلم خرج ولم يعد»، وجائزة مهرجان جمعية الفيلم العاشر عن فيلم «حب في الزنزانة»، وجائزة مهرجان جمعية الفيلم الثاني عشر عن فيلم «الكيف»، وميدالية طلعت حرب من نقابة المهن السينمائية للأعمال المتميزة، وجائزة المركز الكاثوليكي عن فيلم «عودة مواطن» 1984، وعن فيلمي «امرأتان ورجل»، و«الأقزام قادمون»، عام 1988. لكن بالرغم من النجاح والجوائز لم يجد الفخراني نفسه في السينما، وتم الطلاق لأسباب عديدة أبرزها إيمانه المطلق بالتلفزيون كوسيط يقدم القضايا بشكل أعمق من السينما وأكثر انتشارا، ودلل على ذلك بأن أفلاما له تحولت إلى محطات مهمة في تاريخه لم يستمر عرضها في السينما أكثر من 4 أسابيع أي فشلت تجاريا، لافتا إلى أن جمهور السينما أصبح جمهورا خاصا ينتظر شيئا بعينه، وهي مشكلة ـ بحسب تعبيره ـ عالمية وتغلبت عليها السينما الأميركية بشيئين هما الإنتاج الضخم، ومناظر الإثارة والعري.

رؤية الفخراني التي فضل فيها التلفزيون عن السينما من المؤكد أننا نختلف معها، فبالرغم من تشابه أبجديات اللغة فيما بين الوسيطين فإن للسينما إيقاعها السريع ومؤثراتها المختلفة التي تختزل عرض القضايا في دقائق قليلة، ولهذا تتسع لإبداع ثري أكثر خلودا وتأثيرا، ويكفي أن نحيله للمقارنة بين أعمال سينمائية أعيد عرضها للتلفزيون ولم تحقق نجاحا يذكر ومنها «عمارة يعقوبيان» على سبيل المثال، فالتكثيف السينمائي أكثر متعة، وأطول عمرا، ولم يعد الانتشار في غير صالحه، لأن الأفلام أصبحت ضيفة متكررة عل شاشات التلفزيون بعد انتهاء عرضها التجاري مباشرة. على عكس حكايته مع السينما كان للفخراني قصة حب ملتهبة مع التلفزيون، بدأها بمسلسل «أيام المرح»، ومع «أبنائي الأعزاء شكرا» ثم «ليالي الحلمية» و«نصف ربيع الآخر» و«جحا المصري» و«أوبرا عايدة» و«سكة الهلالي» و«زيزينيا» و«عباس الأبيض»، و«الليل وآخره».. وغيرها من الروائع، حتى أصبح فتى الدراما الأول والأعلى أجرا، وتحقق مسلسلاته أعلى نسبة للمشاهدة، فلم يعد يتخيل أحد اليوم شهر رمضان من دون طلته على الشاشة.

سطوة موهبة الفخراني على الشاشة الصغيرة ونفوذها الطاغي على قلوب مشاهديه لم تكن من فراغ، فإضافة إلى تميز الأداء وضع لنفسه قواعد صارمة للاختيار، فهو يقرأ السيناريو كاملا ليعرف مدى أهميته ثم يفكر في ملاءمة توقيت عرض الموضوع، وفي المرحلة الثالثة يهتم بتفاصيل الإنتاج والتنفيذ واختيار «الكاست» المناسب، وفي النهاية يقرأ دوره بعناية ومن الممكن أن يرفضه في النهاية إذا شعر أنه لن يقدم له جديدا.

هذه الدقة هي التي ولدت الروائع، من سليم باشا البدري ذاك الدور المركب الذي تختلط فيه مشاعر الوطنية بحب النساء، بالدهاء السياسي، برأسمالية البناء، إلى جابر مأمون نصار الذي يهرب من العدالة ليبني ليرسخ العدالة، إلى رحيم المنشاوي الباحث عن الحب المستحيل، وعباس الدميري الباحث عن الهوية، حتى حمادة عزو الكائن المبهج غير المسؤول، وشرف فتح الباب من يصلي صلاة الاستخارة كي يقبل الرشوة.

فارس الدراما، من المحزن أن تتبدد موهبته الاستثنائية على قارعة الطريق، من دون نهلها لما تستحقه من كرم الفن السابع، حتى لو كان الصلح سيتم عبر فيلم «محمد على»، ذي الإنتاج الضخم، فتجربة واحدة بعد 10 سنوات من التوقف لن تروي عطش محبيه.