ناصر خمير: أنا كائن معجون بالصحراء.. ولغتي السينمائية تنبع من تراثي الإسلامي والعربي

المخرج التونسي صاحب «طوق الحمامة المفقود» و«بابا عزيز»: لم أربح طوال عمري من أموال تأتي من السينما

ناصر خمير («الشرق الأوسط»)
TT

ناصر خمير مخرج سينمائي تونسي ذو خصوصية فرضت نفسها في الساحة السينمائية العربية، تستهدف عقل المشاهد بلغة سينمائية جديدة، وتفتح الكثير من الأسئلة وعلامات الدهشة في عقل وروح المتلقي.

فمنذ أول أفلامه «الهائمون» انطلقت لغته السينمائية من ينابيع الحضارة الإسلامية والعربية متشبعة بفضاء الصحراء الشاسع، حيث يتراءى الإنسان كمجرد نقطة صغيرة، يؤرجحها الأمل على حافة تلتقي فيها الحياة والموت، الضياع والوجود.

امتزجت فراغات الصحراء بفراغات الوجود الإنساني في أفلام خمير ومزجت لغته السينمائية التراثية بين الواقعي والأسطوري والفانتازي والراهن، كما صنع حالة سينمائية خاصة، تشي بفنان شامل، ينهل من شتى حدوسات المعرفة والعلم والفن. على هامش فعاليات مهرجان الإسكندرية السينمائي في دورته الـ25 حيث تم تكريمه، التقته «الشرق الأوسط» في القاهرة، فكان هذا الحوار:

* أنت مخرج سينمائي مهموم بخصوصيته وبخصوصية لغته السينمائية هل ينطلق هذا من هموم عربية أم إسلامية أم من الاثنين معا؟

ـ أرى في العربي، هو كل مربوط ومرتبط باللغة العربية، فهي الرابط الأساسي للحضارة العربية ولو لم يأت القرآن ولغته لما كانت هناك حضارة، والدليل على ذلك أن العرب رجعوا الآن ليكونوا قبائل. ويعود اهتمامي بالحضارة العربية الإسلامية إلى أنها مكون أساسي لحياتي وعقلي وكياني الإنساني، وهذا يدفعني للاهتمام بهذه الحضارة بكل تنوعها، امتدادا من الهند التي تحتضن رمزها وشعارها تاج محل ويحمل في بنائه المعماري أجمل ما قدمته الحضارة الإسلامية وأجمل الخطوط العربية إلى مختلف البقاع الإسلامية والعربية عالميا.

* لماذا تركز في كل أفلامك على الصحراء وما هو رمزها بالنسبة لك وإلى أين تتجه؟

ـ أكثر العرب لا يعرفون الصحراء وإحساسي أن الصحراء هي اللغة. فمثلا عندما نتحدث عن الحب فإننا نتحدث من الصحراء فكل مرادفاته تأتي من أساس صحراوي، مثل الهيام فهي بالأصل مرض يصيب الجمل فيختل توازنه ويترك الطريق ويتوه، ونعني هنا بالهيام ضيعه الحب. وكلمة حب لها تسعة معان من بينها محمل مكون من ثلاثة أخشاب يحمل كامل الثقل ويوضع بين أخشابه إناء الماء أمام الخيمة ومعنى آخر وهو الجرة إذا امتلأت عن آخرها بالماء لا يمكن أن تزيد عليه قطرة، وعندما يتكلم العربي ينطلق شيء من غابر الصحراء مع الكلام. ومن ثم فالصحراء أقرب شيء يعطي تجسيدا للكون عندما يتحول الإنسان إلى نقطة لا نهائية في فراغها الشاسع.

* عودة إلى الأفلام الثلاثة التي قدمتها للشاشة ولنبدأ من فيلم «الهائمون» والرؤيا التي حملته إياها؟

ـ «الهائمون» أول أفلامي، قدم على الشاشة عام 1984 وحاولت أن أضع كل الأجيال بمستوياتها المختلفة السياسية والاجتماعية والثقافية من بداية النهضة حتى الآن، إلا أن هذه الأجيال رغم تضحياتها ومثابرتها لم تستطع أن تخرجنا من الضياع الذي نعيشه، بما في ذلك القضية الفلسطينية. فالمساءلة التي حملها الفيلم قضية تمتد لحضارة عربية كاملة ولا يمكن حصرها في تونس أو أي بلد عربي آخر على حدة. ومن التجربة كان والدي رحمه الله يقوم عام 1936 بجمع تبرعات لفلسطين في تونس ولدي الأوراق التي تشير إلى ذلك بما في ذلك أوراق تشير إلى المبالغ التي قام الوالد بجمعها وهي نفس الطريقة التي تعامل بها مع الثورة الجزائرية. وهذا يشير إلى أنه كان لدى المواطن العادي إحساس بالمسؤولية تجاه مستقبل أي جهة في العالم العربي، وتلاحم العلاقة فيما بين أجزائه في حالة التقدم والاستقلال أو الانحدار، وهذا الإحساس كان من المواطن في الأساس، وكان الوطن هنا هو اللغة التي تتناقل بين الناس حاملة همومها.

* لكن الفيلم واضح أنه يسير في عالم من عوالم ألف ليلة وليلة ويبدو أنه مرتبط أيضا بعالم من الأساطير؟ ـ المرادفات موجودة في عالمي الفني مرتبطة بالمعتقدات الشعبية وفي الميثولوجيا الكلاسيكية، وحاولت أن تكون أفلامي كلاسيكية للعالم العربي غير مرتبطة بتجمع معين أو مكان معين. فتستطيع أن ترى التداخل في عدة حالات داخل الفيلم، فنجد مثلا تداخلا بين خرافة ترويها أمي في نص يعود للقرن التاسع الميلادي وهذا يقدم تفسيرا لذلك. ونموذج ذلك حكاية بئر الماء والجني، من المعتقدات السائرة في التراث الشعبي العربي وفي النصوص القديمة نرى أن الأرواح تلتقي في بئر معينة في مكان معين، لكن لا أحد يحدد مكانها. ومع العلم أني لا أستعمل النص أو الحدوتة أو المعلومة كما هي مشكلة في التراث، إذ أرى أنه يجب إعادة قراءته بعين اليوم، وأرى في إعادة القراءة عملا يعتبر من أهم الأعمال التي يمكن لها أن تشكل أكبر شاغل لبعث الحضارة العربية من جديد. وإذا لم نقم بهذا العمل وهو عمل كبير يحتاج الكثير من الجهد فإننا سنغادر موقعنا الحضاري تدريجيا ونهبط بثقافتنا العريقة إلى ثقافة «وولت ديزني» المعربة لا محالة. وعندما أقدم مثل هذه الصورة التي تحمل الكثير من المراجعة لحضارتنا وتراثنا العربي فأنا أنقلها لأنها تنبع من داخلي في محاولة للحفاظ على حياتي كشاهد وكجزء من هذه الحضارة.

* هنا أنت تطرح بقوة مفهوم الهوية لك كعربي والعلاقة مع الآخر الغربي أو الآخر بصفة عامة؟

ـ إننا نستعمل تكنولوجيا الهوية في كل دقيقة، نحن نستورد كل شيء من العمارة حتى التكنولوجيا من الآخر، فنحن نعيش على ما يخلقه الغرب وهنا سؤال الهوية له علاقة بالفعالية لهذه الحضارة في المنتج العالمي، وفي الإبداع العالمي فما هو موقع الهوية العربية في هذه الحالة؟ يظن السلفيون والأصوليون العرب أن الغرب ينتج ونحن نستغل ما ينتجه الغرب دون أن ينتبهوا إلى أن هذه النمطية من التفكير لا تقدم سوى فكر تخريبي، لأننا بناء على هذه الرؤيا سنجد أنفسنا في نهاية المطاف نعيش في ثمرة لم يبق لنا منها إلا القشور.

* وماذا عن ثاني أفلامك «طوق الحمامة المفقود» وعلاقته بكتاب العلامة العربي الأندلسي ابن حزم «طوق الحمامة» أبرز كتب العشق والحب في الحضارة العربية؟

ـ ببساطة شديدة، الفيلم يحمل إشارة لكتاب ابن حزم «طوق الحمامة» مع إضافة «المفقود» من طرفي، لأن سؤالا كان يلاحقني وكنت أسعى للإجابة عنه، والسؤال هو ماذا وقع قبل تسعة قرون ولماذا هذا المجتمع يتحول إلى مجتمع يحرم الحب على أبنائه، وكيف يمكن لمجتمع يعيش ويتبلور ويتطور دون حب؟ حاولت الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال إعادة استنطاق التراث وإعادة خلق شخصية تقترب من «طوق الحمامة» بربطها بالواقع المعاصر، من خلال قصة خيالية لكنك تنسجها وتصورها على أساس حقيقي مرتبط بالإحساس والتجربة الذاتية.

* أين ترى نفسك في هذا الفيلم من ألف ليلة وليلة؟

ـ ألف ليلة وليلة نوع من السرد وهناك البعض كتب عن أحد أفلامي بأنه سردي مرتبط بالخرافة، وهذا ليس صحيحا لأن الخرافة عندها مقاييس وعلامات ثم تنتهي عادة بآخر المطاف على تعليم فكرة أو نصيحة. والواقع إن السرد عندي في كل فيلم متغير والهيكلة مختلفة، لكن فكرة ألف ليلة وليلة التي تفرض نفسها عندي في الأفلام ليست في عملية السرد السينمائي، لكنها تتركز في فكرة الجمال المبهر، والإحساس بالجمال بشكل غير عادي، فألف ليلة وليلة هي حلم الشرق، وليست حلم الغرب، هي فكرة الجنة في الخيال الشعبي، حيث يظهر نوع من الجمال الذي يفوق الدنيا. هذا الإحساس الأساسي بكل جلال وعظمة يفوق ما يتخيله الإنسان.

* ماذا عن فيلمك الثالث «بابا عزيز» والأبعاد الصوفية التي يحملها؟

ـ كنت كتبت سيناريو هذا الفيلم عام 1992 واستطعت تنفيذه عام 2005 بعد عامين من حصولي على تمويل، وأنت تعرف صعوبة تمويل مثل هذه الأفلام الخاصة جدا مما جعل مني مخرجا مقلا في عمله السينمائي. وهذا لا يعني أني لا أريد أن أقدم المزيد من الأفلام، ولكن دائما هناك مشكلات التمويل، فأنا موجود لدي أكثر من 32 سيناريو فيلم جاهز للتنفيذ، إلا أن المنتج لا يبحث عن أفلام مثل أفلامي لأنها صعبة وتخاطب العقل والروح. يضاف إلى ذلك أني مقل في عملي السينمائي لأنني سينمائي هاو ولست محترفا بمعنى أني لا أكسب عيشي من عملي السينمائي، فأنا حتى الآن أكسب عيشي من أعمال أخرى مثل الرسم والنحت والكتابة ولم أربح طوال عمري من أموال تأتي من السينما.

من ناحية أخرى أنا لم أدرس السينما في مكان وتشكلت رؤيتي السينمائية من خلال مشاهدتي حتى أنني في فترة من فترات حياتي كنت أعيش بالقرب من المركز السينمائي الفرنسي، كنت أشاهد في اليوم الواحد قرابة خمسة أفلام إلى جانب القراءات التي كنت أقوم بها حول السينما وفن السينما.

هذه المقدمة كانت ضرورية لأقدم لك تفسيرا لهاجس فيلم «بابا عزيز» في مخيلتي ومحاولتي الإجابة عن سؤال يتعلق بالنظرة السلبية للإسلام في الغرب وفي بقاع أخرى في العالم.

وأضرب لك مثالا على ذلك، لو كنت سائرا ووالدك، وفجأة سقط والدك في الوحل فإنك ستساعده على النهوض وتقوم بمسح وجهه بأية طريقة من الوحل الذي لوثه، هذا ما حاولت القيام به في فيلم «بابا عزيز» تجاه والدي الحضارة العربية والإسلامية. وللتعبير عن ذلك قدمت في الفيلم وفي الحوار باللغتين العربية والفارسية للإشارة إلى العمق الجغرافي للحضارة العربية الإسلامية في تمازجهما معا.

وكلمة «بابا» بالفارسية والهندية والتركية تعني الدرويش، وقد حاولت في هذا الفيلم مسح وجه الإسلام بعد وقوعه في الوحل بعد تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وأصبحت نظرة العالم للإسلام مهولة.

* هل يفسر هذا اختيارك قرطبة في أفلامك كمرجعية لرحيل البطل من عالم الصحراء إلى عالم كان تدفق الحضارة العربية الإسلامية كبيرا في الأندلس إلى جانب كونه نقطة تلاق للحضارة العربية الإسلامية مع الآخر الغربي؟

ـ لقد اخترت قرطبة لأنها الأقرب إلي، كذلك لأنها تمثل لي جانبا مشرقا في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية يضاف إلى ذلك أن عائلتي تعود في جذورها إلى جذور أندلسية ولأن قرطبة تمثل جانب التفوق العربي وتمازجها مع الحضارة الأوروبية وظهور منتج جديد ظهر من خلال هذه العلاقة وصب في إطار الحضارة العربية.

وحاولت أيضا أن أوضح صورة الإسلام بعد أن أصبح العالم بأطفاله ينظر إليه وكأنه منبع للشر، ولا يمكن لأي إنسان واع أن يدع ذلك يمر بمثل هذه الطريقة، فلا يمكننا أن نتجاهل الآخر ونغلق الباب علينا ولا نسأل عما يدور خارج الباب. فأنت لا تستطيع أن تنعزل عن العالم وتغلق بابك عليك ولا تكترث بمن حولك فلا يمكنك أن تحافظ على أصالتك بعزلتك.

* سؤال أخير هناك أكثر من ناقد يشير إلى أنك تنتمي إلى فكر وطريقة المخرج المصري الراحل شادي عبد السلام صاحب فيلم «المومياء».. فأين تجد نفسك بالنسبة لهذا القول؟

ـ مع كل حبي واحترامي للمخرج الراحل شادي عبد السلام، فأنا أرى أنه لا علاقة للغتي السينمائية بلغته السينمائية، فشادي عبد السلام كان يحمل ويحلم بفن فرعوني مع تكوين خاص كلاسيكي إيطالي التوجه، خصوصا أنه استفاد جدا من إبداعات رسامي عصر النهضة الإيطاليين. كان شادي عبد السلام يحلم بصناعة فيلم فرعوني قد يكون حلمه هذا جاء نتيجة عمله في فيلم «كليوباترا» الذي صنعته هوليود، مما جعله يراكم في داخله ردة فعل للقيام بهذا العمل، حتى أنه قضى سنوات يقوم يوميا في تحضير الديكور والملابس لفيلم أخناتون الذي لم ير النور. وأعتقد جازما أن المسؤولين والسياسيين والرأسماليين وكل من هو متسلط على الأمة يتحملون مسؤولية عدم إنجاز هذا الفيلم لأنهم غير مقدرين لقيمة هذا العمل الكبير.. لقد صرفت مليارات من الدولارات والأموال على التافه من الأمور من فنادق وقضايا استهلاكية، ولم تخلف هذه المليارات ناتجا وراءها، في حين لو وفرت بضعة ملايين منها لدعم فيلم شادي عبد السلام الله يرحمه كان قدم لمصر وجها لا يمكن لأحد أن يعطيه لمصر، حتى ولو دفع مليارات الدولارات.

أما بالنسبة لي فلغتي السينمائية فنية إسلامية بمواصفاتها رغم صعوبة تفسيرها، فأنا أميل للصورة المسطحة وتغيب الظلال عن لغتي السينمائية في الأفلام الثلاثة التي خرجت للنور. إلى جانب غياب بعض الألوان من نوعية فريم ودكوباج، كذلك عدم وجود البطل في عملية السرد فالبطل متغير لأن التركيبة اللولبية تجعل نقطة الارتكاز في العمل السينمائي متغيرة وتتحرك دائما وتدور في اتجاهات مختلفة ومتصاعدة.