رياح «باريا» لا تجري بما تشتهي سفن تورناتوري

فيلم افتتاح مهرجان البندقية السينمائي مموله تونسي وكلفته 40 مليون دولار

المخرج إلى جانب الممثل فرنشيسكو شيانا خلال تصوير «باريا» («الشرق الأوسط»)
TT

حسب المخرج جوزيبي تورناتوري في كلمته حول فيلم «باريا» فإن الكلمة تعني باللغة الصقلية «ريحا ماضية تحمل الذكرى». والذكرى هي كل ما يبدو مناطا بهذا الفيلم الذي افتتح مهرجان فينسيا السينمائي الدولي في دورته السادسة والستين.

إنه افتتاح له أهميته، فللمرة الأولى يتم افتتاح دورة من دورات فينسيا بفيلم إيطالي، وقد روعي أن يكون الافتتاح من نصيب فيلم كبير الإنتاج لمخرج كبير المواصفات، و«باريا ـ باب الريح» بدا الاختيار الأفضل. فليس سهلا إنجاز أفلام مكلفة في إيطاليا في الوقت الذي تعاني فيه هذه الصناعة من غياب الدعم الحكومي السابق ومن سيطرة السينما التجارية وعزوف الجمهور الذي كان يحضر أفلام فيلليني وأنطونيوني عن من يرغب في احتلال مكانيهما، وتورناتوري أحد هؤلاء بالتأكيد.

لكن «باريا» قبل أن يكون فيلما وحالة سينمائية هو وسيط بين حالة سياسية ومهرجان يحاول أن يدعم السينما الجيدة ويبحث عنها تحت كل كومة قش ممكنة. بعض الإنتاجات لا داعي للبحث عنها، فهي التي تتقدم، والرغبة في اختيار هذا الفيلم لمهرجان فينسيا كانت متساوية بين مدير المهرجان ماركو مولر وبين مخرج الفيلم جوزيبي تورناتوري.

الفيلم هو، بين مواصفات أخرى كثيرة، صرخة يسارية حول أحلام أجهضتها حركات التغيير التي وقعت في إيطاليا بالارتباط مع تلك التي وقعت حول العالم. إذ ينطلق «باريا» من الثلاثينات وينتهي في الخمسينات، يسرد علينا توالي التيارات السياسية الإيطالية من الفاشية في الثلاثينات وخلال الحرب العالمية الثانية، إلى الشيوعية التي انتشرت في إيطاليا بعد انتهاء تلك الحرب وخلال الخمسينات الستالينية، وصولا إلى الثمانينات حيث دخل الحزب الشيوعي الإيطالي مرحلة جديدة من الصراعات السياسية داخل إيطاليا بعد انهيار النظم الرسمية القريبة.

رئيس الوزراء الإيطالي الحالي سيلفيو برلسكوني أشاد بالفيلم وهو اليميني، كذلك فعل نقاد سينمائيون يكتبون في صحف يسارية على الرغم من أن المخرج تورناتوري، وهو يساري معروف، يعرض في فيلمه مشهدا لعودة حزبي شيوعي إيطالي من رحلة قام بها إلى الاتحاد السوفياتي في الخمسينات، وقد تبدلت قناعاته بعدما حصد خيبة أمل بسبب ما شاهده أيام ستالين.

بوضع هذه الملاحظات جانبا، وبالاقتراب أكثر من ماهية الفيلم وكيانه فإن «باريا» مخيب للآمال على نحو كبير، وسيكون صعبا عليه منافسة أفلام جيدة أخرى منتظرة قد لا تكون بالحجم الكبير نفسه، لكنها ستعمد إلى النفَس المستقل وإلى الإبداع الذاتي والحكايات والشخصيات القابلة للتصديق كمعين نوعي لها.

المشكلة التي تعتري «باريا» هي بحجم ضخامة إنتاجه: طوال الـ163 دقيقة هناك سيل من المواقف المتوالية، سيل من الحوارات وعدد لا يتوقف من الشخصيات الصغيرة والكبيرة، ورحلة زمنية عبر عقود من التاريخ الإيطالي الحديث، و40 مليون دولار دفعها المنتج التونسي طارق بن عمار عبر شركته الجديدة «إيغل».

ليس أن كل إنتاج كبير أو ضخم محكوم عليه بالفشل، وأفلام فرنسيس فورد كوبولا، وبرناردو برتولوتشي، وسيرغي بوندارتشوك لا تزال نماذج صالحة للدراسة. لكن ما يحدث في فيلم تورناتوري الجديد هو أن الرغبة في حشد كل هذه القصص وكل تلك العناصر الفنية والإنتاجية في فيلم ضخم، أدى ـ وعلى نحو غير متوقع من مخرج عُرف عنه ذكاء فني مشهود ـ إلى عمل مكثف في كل تلك النواحي، والأهم ميكانيكي الحس والصنعة بحيث لا يمكن البحث عن مصادر ذاتية أو لقاء بين الحكاية المسردة وبين ما قد يكون واقعا وليس مجرد رصف كتابي لخلق حالة أو تسجيل موقف.

نرى في البداية صبيا يلعب في أحد أزقة بلدة براغيا في الثلاثينات، يطلب منه رجل شراء علبة سجائر له. حين يتردد الصبي في تلبية الطلب يبصق الرجل على الأرض ويقول للصبي إنه إذا عاد بالسجائر قبل أن تنشف البصقة سيدفع له عشرين لير إيطالي. ينطلق الصبي يسابق الريح والكاميرا تركض أمامه، ثم ها هو في فانتازيا شبه وحيدة في الفيلم، يطير فوق البلدة بأسرها لننتقل بعد ذلك إلى سبر حياة عائلة تورينوفا التي سنصاحبها طوال الفيلم جيلا بعد جيل.

الفيلم يقدم لنا الأب الذي لم يحصل على علم كثير ويعمل راعيا للمواشي منذ صغره لكنه يحب القراءة، والذي نشأ ابنه صبيا وسط تقلب الحياة الاجتماعية والسياسية في البلدة وصولا إلى شبابه، ثم زواجه، ثم إنجابه، وذلك على الصعيد الشخصي، كذلك انضمامه إلى الحزب الذي ساد اعتقاد الأهالي حينها أن أعضاءه «يأكلون الأطفال»، كما يقول الفيلم. هناك الكثير من الأخذ والرد في أمور هذا الحزب وتطلعاته ومساعيه للوصول إلى الحكومة، وكيف أن بطل الفيلم بيبينو (فرنشيسكو شيانا) شارك في الحزب عضوا وواجه في سبيل ذلك قوى الفاشية وقوى الحكومة والمافيا على نحو متوالٍ.

لكنّ جزءا كبيرا من الفيلم ينتمي إلى بيبينو شابا، واقعا في حب مانينا، الفتاة التي يرغب أهلها في تزويجها من صاحب أراضٍ «لا تنتهي» كما تقول الأم، لكن بيبينو الذي لا يملك شراء خاتم نحاسي لزواجه هو الذي يفوز بها، وكيف أنه خلص في النهاية لبناء صرح عائلة متحابة حتى حين مرت عليه أزمات شديدة بسبب شيوعيته. في أحد المشاهد تسأله زوجته ما الذي نال العائلة من خيرات أو حسنات منذ انضمامه إلى ذلك الحزب. على هذا لا يملك الزوج إلا أن يتجاهل الرد على السؤال محاولا التغلب على أوجاعه بعدما نال «علقة» من رجال الشرطة الذين تدخلوا لتفريق مظاهرة كان يشترك فيها.

هذه الاستخلاصات هي أهم ما تتمحور الأحداث حوله: حياة بيبينو قبل وبعد زواجه، وما مر من مراحل في الحياتين الاجتماعية والسياسية لبلدة براغيا، من دون الإدعاء أن ما مر بها هو نموذج لما مرت به إيطاليا كلها. إنه فيلم عن طموح رجل معدم في أن يصبح قائدا سياسيا وحدود قدراته كونه شبه أميّ ولا يملك تلك الرؤية السياسية التي يمكن لها أن تبلور له موقفا أو منهجا. الحياة العاطفية تتناوب والحياة السياسية، لكنّ كليهما مليء بالكليشيهات والمتوقع من التعابير والتصرفات. إنه كما لو كان المخرج مُصرّ على أن يستبدل كل ما هو ذاتي (من عنده ومن عند ممثليه) بالحركة والكلمة. وعلى ذكر الكلمة لن يكون هذا الناقد مدهوشا إذا ما تم إحصاء عدد الكلمات في هذا الفيلم فوصل إلى مليون أو يزيد. لا شيء صامت، لا شيء للتأمل ولا فترات هدوء ولو بسيطة، بل لهاث من قبل الممثلين عموما، وفي إطار أحداث متراكضة في أجواء منفوخة عوض أن تكون مشحونة.

إلى ذلك كله فإن الموسيقار البديع عادة إنيو موريكوني ينجح في ملاقاة كل ذلك بمثيله من الموسيقى، من حيث إنها تخفق في أن تتساوى ونوعية وقيمة أعماله السابقة. إلى ذلك فإن المخرج يستخدمها كما لو كانت قنابل صوتية، كل مقطوعة منها تنجز مهمة شبيهة بالمقطوعة السابقة من حيث عدم تأثيرها مطلقا على صعيد فني.

بالإضافة إلى ذلك، فإن ما كان يمكن أن يُلتقط طوال العرض من خامات تمثيلية جيدة يقضي تورناتوري عليه بتلك الحركة المونتاجية اللاهثة. الممثل ربما أدى المشهد صحيحا وبذل فيه من موهبته حين وقف أمام الكاميرا، لكن التوليف يأخذ على عاتقه (وقد قام به ماسيمو غواغليا) تدمير هذا الجهد بنقلات سريعة مكهربة تزيد من حركة الفيلم في اتجاهات مبعثرة تفتقد المنهج الصحيح.