الحرب في لبنان والعراق على شاشات مهرجان البندقية

مسامير في نعش الحقيقة في فيلم «لبنان» الإسرائيلي.. وكلوني يسخر من الحرب في «الرجال الذين يحدقون في الماعز»

لقطة لجورج كلوني من «الرجال الذين يحدقون في الماعز» («الشرق الاوسط»)
TT

تصفيق حار للفيلم الإسرائيلي من قِبل الجمهور الإيطالي في حفلتين، واحدة للنقاد والإعلاميين وأصحاب المصالح والحرف السينمائية، وواحدة للجمهور. السبب بالطبع هو إعجابهم بفيلم مدهم ومُقحم أنجزه سامويل ماعوز بعنوان «لبنان»، ينطلق من نقطة توتر عالية ويبقى كذلك طوال الوقت مع كاميرا محصورة في داخل دبابة إسرائيلية عليها أن تجتاز بلدة لبنانية من طرفها إلى طرفها الآخر خلال حرب 1948.

داخل الدبابة هناك فريق من أربعة أشخاص. خارجها ثلة من القوات الإسرائيلية. التركيز على من في الداخل والكاميرا لا تغادر الدبابة إلا في لقطة واحدة في نهاية العمل. الدبابة توجه مدفعها إلى بضعة أهداف، كذلك يفعل الفيلم. هناك قتلى عرب (لا نعرف هوياتهم) لكن هناك أيضا إصابات على صعيد المنطق والمصداقية. هذا فيلم يغلف الحقيقة بشرشف قصير يشده إلى رأسه فتنكشف قدماه، ويشده إلى قدميه فينكشف رأسه. لكنه تقنيا جيد التنفيذ وإقحامه المشاهد من المشهد الأول إلى الأخير يحمل نبرة عالية من تحدي محدودية المكان واحتمالات الانزلاق في الدعاية المباشرة للجيش الإسرائيلي، وينجز ذلك بنجاح بصري لافت.

ليس أنه يخلو بالنتيجة من هذه الدعاية، لكنه ينطلق صوبها كما لو أن ذلك ليس واردا في باله. حين تتقدم الدبابة من البلدة التي سبق للطائرات أن دمرتها (نسمعها ولا نراها) تواجه أول تحدياتها: سيارة فيها مسلحون تتوجه إلى حيث الدبابة والجنود الإسرائيليين خارجها. يطلب آمر الوحدة من الجندي المكلف بمدفع الدبابة تدميرها، لكن هذا يخاف، ما ينتج عنه تبادل إطلاق النار ومقتل أحد المسلحين وهرب الثاني ومقتل جندي إسرائيلي. يخاف؟ إذ يدق ذلك مسمارا أولا في نعش الواقع، تتقدم سيارة ثانية بعد دقائق يسيرة. كان يمكن للفيلم منح نفسه مسافة أكبر بين السيارتين، فلا بد أن سائق السيارة الثانية قد سمع إطلاق النار قبل انطلاقه صوب نفس المكان. المهم أن الجندي المكلف هذه المرة يطلق قذيفته على السيارة فيفجرها. هذه المرة صلح الخطأ السابق. يقول الفيلم بخطأ آخر، إذ إن السيارة لم تكن تحمل سوى أقفاص دجاج.

بعد ذلك لا إحصاء للمسامير الأخرى، فالخوف ليس في ذات ذلك الجندي وحده، بل في الجميع. طوال الفيلم تكشف نقاشاتهم عن حيرة وخشية وعدم ثقة، كما لو كانوا أبرياء عاديين وضعوا في ظرف لم يستعد له أي منهم. تتساءل وأنت ترقبهم في فوضاهم وعدم انضباطهم إذا ما كانوا ينتقلون من بيوتهم إلى الجبهات من دون إعداد نفسي وعسكري. طبعا بما أن هذا هو ليس الحال، بل يتعرض الجندي الإسرائيلي لتدريب قاسٍ على كل الأصعدة. أكبر تلك المسامير هو اتخاذ حزب الكتائب اللبنانية مشجبا لتعليق آثام الحروب الإسرائيلية في لبنان. هذا ما فعله فيلم «الرقص مع بشير»، وهذا ما يفعله هذا الفيلم. ليس أن حزب الكتائب كان حمامة سلام، وليس أن هناك ألوف الضحايا الأبرياء معلقة في رقبته، ورقبة كل حزب مارس القتل المدني.

في هذا الخروج عن المنطق يكمن المشهد الذي يدخل مسلح كتائبي الدبابة (ودخوله أقرب إلى الاقتحام، إذ إن الجيش يمنع أيا كان دخول دبابة ما إلا إذا كان من فريقها، حتى ولو كان من أفراد الجيش نفسه، فما البال بغريب عن ذلك الجيش؟) ويعامل الجنود الإسرائيليين بعجرفة ويصدر ما يصل إلى حد الأوامر إليهم حول الوجهة التي على الدبابة أن تتخذها. في مشهد آخر داخل الدبابة أيضا ينظر إلى جندي سوري كان سقط في الأسر واحتجز مقيدا في الدبابة، ويقرفص بمحاذاته ثم يتوعده بقتل بطيء واعتداء جنسي وقلع عين وتمزيق جسده بين سيارتين. ويصور الفيلم هذه الواقعة مشيرا إلى أن الوحشية وعدم احترام شخص السجين هي من عمل الكتائب اللبنانية، أما الجنود الإسرائيليون فهم وادعون يعارضون مثل هذه السلوكيات.

بالنتيجة الحرب كانت، بالنسبة لهذا الفيلم، نتيجة ما ارتكبه العرب فيما بينهم. ويدل على ذلك المشهد الذي نرى فيه مسلحا عربيا (غير معروف الهوية أيضا وكوفياتهم قد تكون سورية أو لبنانية أو فلسطينية) يتخذ من امرأة وأولادها درعا ما يحجم القوات الإسرائيلية من إطلاق النار عليه خوفا من إصابتها. وهنا يجد الفيلم الحل في دخول مسلح آخر وإطلاق النار على العائلة، وهو ما يسمح للجنود بفتح النار عليه وعلى رفيقه وقتلهما. بعد ذلك تهاجم المرأة الناجية جنديا إسرائيليا هرع لنجدتها بقبضة يديها حين تمسك النار بثيابها فتحرق الرداء الواحد الذي عليها فيقوم الجندي بمساعدتها لستر نفسها.

ذات مرة في العراق: وفي إطار عسكري أيضا يتقدم الفيلم الأميركي «الرجال الذي حدقوا في الماعز». سيناريو نام في الأدراج طويلا إلى أن قرأه جورج كلوني فقرر شراء حقوقه لإنتاجه، مسندا الإخراج إلى الجديد نوعا غرانت هسلوف.

كلوني يؤدي دورا رئيسيا إلى جانب إيوان مكروغر وجف بردجز وكَفين سبايسي وروبرت باتريك. كوميديا سوداء ساخرة من العسكرتاريا والحروب من فيتنام إلى العراق تحمل جرعة كبيرة من الجرأة من دون أن تكون سخريتها منصبة على الجنود أنفسهم. بذلك هو قريب من «الملوك الثلاثة» الذي قام جورج كلوني أيضا ببطولته، ومن «كاتش 22» و«ماش» و«دكتور سترانغلوف»، وكلها أفلام وجدت في الحرب مادة للسخرية عما يقود للحرب وما يحدث فيها.

الكتاب هو المصدر الأساسي، وضعه جو رونسون سنة 2004 وتحدث فيه عن حكايات غريبة الأحداث ادعى أنها حقيقية. حسب الكتاب والسيناريو ثم الفيلم، خلال الحرب الفيتنامية تم تأليف فرقة من المشاة الأميركيين مهمتها شن الحروب من دون أسلحة قتالية. كل ما عليها استخدامه، بعد تمارين مجهدة تتخللها تدريبات روحانية مستمدة من علوم شرقية، هو إدمان النظر إلى العدوّ حتى يموت. والتجارب شملت الماعز، ونرى في مشهد بالغ السخرية جورج كلوني جالسا على كرسي يحدق إلى تلك المعزة وهي تمضغ أكلها، ثم تتوقف عنه و... تنقلب على جنبها ميتة.

الفيلم ينتقل بين الحاضر (الحرب في العراق) وبين الماضي (الحرب الفيتنامية وبعدها)، لكنه ليس فيلما حربيا، إذ يخلو من الجيش النظامي ولا يصور حربا دائرة في أي مكان. الذي يسرد أحداثه هو صحافي (مكروغر) يتعرف على جندي اسمه سكيب (كلوني) الذي يرضى بأخذه معه من الكويت إلى العراق. يتوهان في الصحراء وتنقذ حياتهما عنزة، إذ يتبعانها إلى حيث بركة مياه وسط الرمال، وهذا بعد معركتين بين جهازين أمنيين أميركيين تنشب بطريق الخطأ وتتبع اختطاف الصحافي والجندي الموهوب بالتحديق، إذ هو خريج تلك الفرقة الخاصة، من قِبل مجموعة عربية مسلحة.

كلوني يريد أن يؤكد هنا أن الخلط بين العرب ليس صحيحا. حين يتحدث إلى رجل عربي كان محتجزا من قبل المسلحين العرب ويقول له: «ليس كل العرب أشرارا»، هو لا يستخدم حوارا واردا في السيناريو فقط، بل حوارا أراد استخدامه في الفيلم لأنه يعنيه. رسالة صغيرة تفصح عن أن الخاطئين في لعبة الحرب هذه هم المعتدون من كل الفئات، سواء كانوا أميركيين أو غير أميركيين، وأن الأبرياء أيضا هم من كل الأجناس. ومصدر تأكيدها هو تلك اللقطة القريبة للرجلين وعيني كلوني اللتين تعكسان إيمانا واضحا بما يقوله. كلوني أكد لـ«الشرق الأوسط» في اليوم ذاته أن ما يعنيه من أفلامه ذات الطروحات السياسية هو فتح لغة التواصل بين الناس لأن منظور الأميركي للآخر لا يزال واقعا تحت عبء الإعلام المنحاز.

أحداث الفيلم كثيرة ومتشعبة واستخدام الانتقال بين الماضي والحاضر يُبقي المشاهد يقظا، وكل ذلك نتيجة وضع يد محكمة على الأحداث، ما يجنب الفيلم التشرذم والإفلات من وحدة السرد.

ما يحسب للفيلم أيضا كل تلك المادة الكوميدية الساخرة التي يوفرها الفيلم على صعيد المشهد وديناميكيته كما على صعيد حواره الملغوم.

شخصيات الفيلم مجنونة أو تكاد. من شخصية كلوني الذي يرتكب قرارات خاطئة تكاد تودي به وبالصحافي إلى التهلكة، إلى جف بردجز الذي يؤدي شخصية رئيس تلك الفرقة التي يستخدم جزءا من ميزانية الجيش الممنوحة إليها لشراء المخدرات التي يُقال: (لا نرى) أنه يتعاطاها. هناك أيضا شخصية كَفن سبايسي الذي يحقد على الجميع ويريد قيادة هذه الفرقة، لكنه ينتهي مندحرا وبشكل يدعو للسخرية.