«أميركا».. الهجرة واقتلاع الجذور

فيلم لمخرجة فلسطينية يثير الدهشة والمتعة

TT

حتى بالنسبة لفيلم صغير يتميز بمستوى فائق من الجودة، نال «أميركا» قدرا من الإشادة مثيرا للدهشة. وحقق الفيلم نجاحا ملحوظا بمهرجان «سندانس»، في الليلة الافتتاحية لسلسلة الأفلام والمخرجين الجدد وحاز الفيلم جائزة «الاتحاد الدولي لنقاد الأفلام» (FIPRESCI) في قسم «نصف شهر المخرجين» في مهرجان كان. ويعد ذلك أمرا غير متوقع ذلك أنه في جوهره، يتميز هذا الفيلم للكاتبة والمخرجة شيرين دعبس بلمسة دافئة ونزعة مرحة لا تلقى قبولا واسع النطاق في العادة من جانب الأوصياء على أبواب السينما. إلا أن «أميركا»، مثلما يوحي اسمه العربي، يحمل بداخله مميزات أخرى. ويدور الفيلم حول قصة تملؤها العاطفة لسيدة فلسطينية مطلقة ونجلها هاجرا إلى الولايات المتحدة بعد غزو العراق بفترة قصيرة، وهي قصة تستفيد من خلفية دعبس كطفلة لأب فلسطيني وأم أردنية ترعرعت بمنطقة «ميدويست» في الولايات المتحدة خلال فترة حرب الخليج.

وبذلك يتضح أن المخرجة تعي جيدا من تجربتها الشخصية أن ملاحم الهجرة مفعمة بأكثر القصص الأميركية حزنا وسعادة في الوقت نفسه. تواجه كل مجموعة جديدة من الوافدين إلى البلاد بالتحديات العامة ذاتها، علاوة على التحديات الخاصة المرتبطة بها على نحو محدد، وذلك في إطار مساعيها للتكيف مع أكثر الأوطان الجديدة ترحيبا وصعوبة في نفس الوقت. يسلط هذا الفيلم المثير الضوء عن قرب وبجدية على هذه التجربة، إضافة إلى صبغة كوميدية عاطفية. وعمد الفيلم بذكاء إلى تجنب الحدة والإفراط في التصوير العاطفي، وجاءت المحصلة متمثلة في عمل متوازن على نحو رائع. كما يكشف الفيلم عن المجهود الذي بذلته دعبس طيلة شهور، وكانت مدركة أن نجاح أو فشل الفيلم يعتمد على مستوى التمثيل به، حيث جابت مختلف أرجاء العالم بحثا عن فريق الممثلين. وبالفعل، جاءت اختياراتها كافة ممتازة، لكن الممثلة الفلسطينية، نسرين فاعور، في دور منى، نجحت في اجتذاب القدر الأكبر من الأضواء إليها. الملاحظ أن شخصية منى الدافئة استفادت كثيرا من الحضور القوي والمتحمس لفاعور. والملاحظ كذلك أن منى تنتمي إلى نمط من الشخصية مسرف في التعبير عن ذاته، لدرجة أنها لم تتمالك نفسها أمام مسؤول الجمارك الأميركي واندفعت بالقول: «زوجي، إنه رجل غير صالح». لكن ليست فقط مشاعر منى هي التي تدب فيها الحياة على وجه فاعور، وإنما كذلك آلامها وأحزانها. وقد بلغت فاعور قدرا من الموهبة جعل أدنى قدر من المعاملة المهينة تتعرض له منى يؤلمنا جميعا. يستهل فيلم «أميركا» مشاهده بالضفة الغربية، حيث تعمل منى في أحد المصارف حيث لا تلقى تقديرا وتعيش مع أم صعبة المراس لا تتردد حيال انتقادها وزن ابنتها علانية. وخلال الفيلم نرى الحياة التي ترغب منى في الهروب منها وعناصرها، بما في ذلك الجدار العازل والجنود الإسرائيليين القساة دوما المكلفين بحراسة الجدار. ومع ذلك، تنتمي منى إلى الطبقة الوسطى وتعيش حياة طيبة (ما عدد المرات التي عاينا خلالها هذا الجانب من الحياة الفلسطينية؟)، وعندما تحصل على البطاقة الخضراء التي نست أنها تقدمت بطلب للحصول عليها لصالحها وصالح ابنها، فادي (16 عاما)، تتردد منى حيال قبول السفر. ورغم أن أحد أقاربها ينصحها قائلا: «إنهم حتى لا يحبوننا هناك»، يأتي الصوت الحاسم من ابنها الذي يذكرها بأن أميركا في كل الأحوال «ستكون أفضل من العيش كسجناء داخل وطننا». وما ساعد منى على اتخاذ القرار وجود شقيقتها رغدة (تجسدها الممثلة الفلسطينية العظيمة هيام عباس) في الولايات المتحدة منذ 15 عاما، تحديدا بضواحي إلينوي، وهي زوجة طبيب ناجح وأم لثلاثة أبناء. على الأقل كان هذا هو الحال قبل غزو العراق. بمجرد مرور منى بعد تردد عبر مسؤولي الجمارك الأميركيين (عندما سئلت عن «المهنة»، أجابت: «نعم، إنها محتلة منذ 40 عاما»)، تكتشف أن مكانة الطبيب تضررت بسبب مشاعر كراهية العرب وتواجه ابنته الكبرى، سلمى (عليا شوكت)، وقتا عصيبا في المدرسة للسبب ذاته. ونظرا لهذا الوضع، علاوة على حادث مؤسف تعرضت له منى في الجمارك، تصبح بحاجة ماسة لإيجاد عمل. ورغم خبرتها وطلاقتها في الحديث بعدة لغات، ترفض جميع المصارف المحلية تعيينها، ويظهر في الصورة «وايت كاسل» فقط ليعرض عليها وظيفة وبداية مغامرة جديدة. يتحرك فيلم «أميركا» ذهابا وإيابا بين ما يحدث لمنى في حياتها والصعوبات التي يواجهها ابنها. لقد تجاوزت أميركا ما كانا ينشدانه، مثلما الحال دوما. وتتمثل ميزة هذا الفيلم في أنه رغم تصويره انحسار المشكلات التي تعانيها شخصياته، فإنه لا يصر على نحو سطحي بأنها اختفت إلى الأبد. ورغم أن رغدة تصر، عن حق، في أن «الشجرة المقتلعة من جذورها لغرسها بمكان آخر لا تنمو»، إذا كان لدى أي شخص القدرة على قلب هذا الحال رأسا على عقب، فإنه منى.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»