«هدوء نسبي» على سطح صفيح ساخن

الأول بلا منازع في ماراثون رمضان التلفزيوني

الفنانة نيلي كريم في مسلسل «هدوء نسبي» («الشرق الأوسط»)
TT

في عالمنا العربي عندما يتناول المبدع قضية سياسية طازجة فإنه بالتأكيد يمشي على سطح صفيح ساخن بعد أن تباينت المواقف العربية الرسمية، فما بالكم إذا كان الأمر عن الغزو الأمريكي للعراق والذي لا نزال نعيش تبعاته السياسية والاقتصادية والأمنية وحتى الآن؟! لم تتفق القيادات العربية على اتخاذ موقف واحد بل إن صوت الخلافات العربية كان يعلو في الكثير من الأحيان على الأصوات التي تدين العدوان الأمريكي.. القضايا السياسية تظل هي المستحيل الرابع في تناولها دراميا بعد الغول والعنقاء والخل الوفي.. لو أننا بصدد عمل درامي تلفزيوني مرتبط بالتسويق في الدول العربية وتدخل أيضا في اقتصادياته العديد من التوجهات رسمية وتجارية مثل مصر وسورية والمملكة العربية السعودية، حيث قطاع الإنتاج المصري التابع لاتحاد الإذاعة والتلفزيون وشركة روتانا السعودية وشركة A.R.T السعودية وشركة إنتاج خاصة سورية، والمسلسل نفسه يجسد في بنائه هذا التعدد الكاتب سوري خالد خليفة، المخرج تونسي شوقي الماجري، الممثلون من سورية عابد فهد ومن مصر نيللي كريم وعديد من الأسماء جاءت من لبنان والأردن والعراق وتونس وفلسطين والجزائر، بالإضافة إلى فنيين من بولونيا وإيران.. خلطة لم يقصدها المخرج ولكن فرضتها الضرورة.. الأرض هي العراق وتحديدا بغداد إنه المكان الرئيسي الذي تحول إلى مسرح للأحداث العسكرية وأيضا العاطفية أثناء الغزو الأمريكي للعراق يجتمع كل مراسلي القنوات الفضائية وفي نفس الفندق الذي يتعرض للقصف وبين الحين والآخر وبرغم قسوة القصف وعشوائيته فإنهم يحاولون القيام بواجباتهم الوظيفية وأيضا الإنسانية.. إن حياة هؤلاء صارت تشكل أهمية في كل بيت عربي.. طرحت الفضائيات في السنوات الأخيرة اسم المراسل الصحافي التلفزيوني كبطل محوري تتابعه الأسرة وشاهدنا أكثر من شهيد دفع حياته ثمنا للوصول إلى الحقيقة.. إننا نتعامل في بداية الأمر ونهايته مع بشر لهم أحاسيسهم ومشاعرهم واستطاع الكاتب خالد خليفة أن يمنح هذا المسلسل بعدا إنسانيا، شخصيات من دم ولحم تحب وتنفعل وتتغير وتتبدل مشاعرها.. هكذا وجدنا في اللقاء بين عابد فهد ونيللي كريم كل منهما له حياته الاجتماعية السابقة، ولكنهما يلتقيان في لحظة فارقة يحاولان العودة إلى زمن قديم اشتعلت بينهما مشاعر الحب البكر ولكن الحياة وقفت لهما وقتها بالمرصاد، وننتقل من تلك القضية العاطفية بين الأبطال الرئيسيين إلى الحالة السياسية التي يتناولها المسلسل. نعم الإيمان المطلق بالحق العربي في أن يملك الإنسان تقرير مصيره قضية اجتمع عليها الجميع حتى الفرقاء، إلا أن السؤال كان يطل دائما ومعه الحيرة التي صاحبت الغزو العراقي هل ثمن التخلص من الديكتاتورية هو الاحتلال الأمريكي.. الحيرة أيضا التي يعيشها الصحافيين تحت القصف وحياتهم المهددة.. هل يضحون بحياتهم من أجل أن يحققوا السبق الصحافي أم لأنهم يريدون اقتناص الحقيقة..

المؤكد أن عشق المهنة سواء للصحافة المكتوبة أو المرئية لا يكفي لأنك في لحظة ما إذا لم تكن تؤمن بمثل أعلى وبمبدأ يهون من أجله كل شيء فسوف تتراجع في اللحظة الحاسمة وتبحث فقط عن أمنك الشخصي.. المسلسل يقدم من خلال شوقي الماجري حالة إبداعية استثنائية أصبحت ممن يتابعون هذا المخرج ولا أظنني وحدي فهو لديه قدرة على أن يمنح الشاشة ألقا خاصا في مسلسلاته الأخيرة تستطيع أن ترى كل ذلك مثلا في «الأمين والمأمون»، «الاجتياح»، «أسمهان» فهو يقدم رؤية مليئة بالتفاصيل السمعية والبصرية من خلال موسيقى رعد خلف ومهندس ديكور زيان قات ومصور من بولونيا أولاف بولينسكي ومكياج من إيران مصطفى إسلاميك لا أتصور أن الأمر هو مزج لهذه الجنسيات، لكنه اختيار لعناصر قادرة على تحقيق رؤية إبداعية لهذا المخرج من خلال الشاشة، فهو هنا يبحث عن مبدعين قادرين على الذوبان معا.. لا يعني المخرج تلك النهاية الساخنة التي صارت تشكل أغلب معالم الدراما التلفزيونية كل حلقة تنتهي إلى ذروة تشويقية للحلقة القادمة. الماجري لا تعنيه تلك الذروة بالمعنى الدرامي المباشر، لكنه قادر على أن يجعلك تنتظر الحلقة القادمة بإحساس يتدفق داخلك. إنها الحالة الإبداعية العامة للمسلسل التي تؤهلك لانتظار المزيد في الغد ليست الحكاية هي البطل عند الماجري ولكن تدفق المشاعر ووصولها في كل حلقة إلى ذروة أعلى!! في إحدى جمل الحوار يسأل مواطن عراقي نيللي كريم التي تراسل إحدى القنوات الفضائية ما الذي جاء بك إلى هنا.. تجيب قائلة مجانين بعيد عنك؟! تبدو كلمات ساخرة لكنها تعبر عن الحقيقة إنه العشق الذي يتجاوز المنطق في عمقه.. هل الأبطال التقوا من أجل هذا الهدف وهو البحث عن الحقيقة والدفاع عن حرية العراق، أم أنها مشاعر الحب النبيلة بين الأبطال المهزومين عاطفيا فقرروا تحقيق الانتصار العاطفي.. وهل يتحقق هذا الانتصار في النهاية.. الانتصار في الحب لا يأتي بالزواج وليس المأذون هو فقط المنوط به إعلان الانتصار.. ولكن إحساسا داخليا نعيشه أو نفتقده.. واجهت كل من الكاتب والمخرج مشكلة تعدد اللهجات وكانت لديه القدرة على أن يمنح كل شخصية لهجتها فلسطينية، لبنانية، سورية، مصرية لتصبح الشخصية معبرة عن تفاصيلها ومن المؤكد أنه بقدر المستطاع لجأ إلى ما يعرف باللهجة «البيضاء» وهو تعبير يتداول حديثا خاصا في مجال الأغنية يعني البعد عن الكلمات التي ربما لا يفهمها سوى المواطن فقط الذي يقيم في هذه البلد أو تلك فهو أخذ من اللهجة خصوصيتها، لكنه ابتعد عن أي تعقيد قد يعيق اندماج المشاهدين مع الحوار..

وعندما تعرض إلى الشخصيات الأمريكية كان حصيفا وهو يتمسك باستخدام اللغة الإنجليزية مع الترجمة.. نعم كان بذكاء بين الحين والآخر يمنح بعض شخصياته حتى الأمريكية منها مبررا للحديث باللغة العربية.. إلا أنه استخدم بحرفية شديدة الترجمة للعربية في المشاهد التي تفرض استخدام اللغة الإنجليزية بعيدا عن الطريقة التقليدية التي تفرض على الأجنبي أداء اللغة العربية بأسلوب مكسر يحيل الأمر إلى نكتة تبعدنا عن الواقع!! لا تجد في المسلسل إدانة مباشرة لأي موقف سياسي عربي، لكنه أدان الغزو الأمريكي وأيضا العنف الذي مارسوه ضد أبناء البلد وأدان أيضا الحرب الأهلية التي اندلعت بين الفرقاء في العراق لكنه حرص على ألا يفتح الباب أمام الخلافات السياسية العربية العربية رغم أنك لو فتحت هذا الباب فسوف تعثر على مادة سياسية ساخنة إلا أنها لن تقف فقط حائلا دون تسويق المسلسل ولكنها تتناقض مع الهدف الأعلى للعمل الفني وهو السباحة داخل مشاعر البشر وليس فضح الموقف الرسمي السياسي للدول العربية!! «الهدوء النسبي» وهو التعبير الذي كان كثيرا ما يتردد في نشرات الأخبار وهي تتابع أحداث الغزو الأمريكي للعراق، لكنه لم يستسلم إلى هذا الإطار السياسي لأنه يخنق القضية ويضعها في إطار ضيق جدا فيصبح الفنان معبرا عن توجه وليس قيمة فكرية أكبر وأرحب وأراد الكاتب والمخرج أن يمنحا المسلسل انطلاقة تتجاوز بكثير قيود السياسة، وإن كانت في عمقها لا تخلو بالقطع من سياسة.. مزج المخرج بذكاء بين لقطات تسجيلية وثائقية عما حدث في العراق، وخاصة تلك التي ارتبطت بوزير الإعلام الأسبق في العراق «الصحاف» الذي شكل في وجدان العالم كله وليس فقط العربي حالة استثنائية دالة على الحرب.. نعم كان يقدم مؤتمرا صحافيا أحيانا كل ساعة بأداء تمثيلي رائع وهو يصف المعركة بأن الأمريكان قد جاءوا لحتفهم.. ظل حتى اللحظات الأخيرة يصفهم بتعبير «العلوج» وهي الكلمة التي احتارت في إيجاد مرادف مقنع لها كل القواميس العربية والأجنبية!! لم أر هؤلاء الفنانين الكبار الذين لعبوا البطولة من قبل بهذا البريق مثل عابد فهد، نيللي كريم، ندين سلامة، بيير داغر، ذو الفقار خضر، وليد كمال، أميرة فتحي، توفيق عبد الحميد، جواد الشكرجي، حسناء سيف الدين.. أتذكر الممثل المصري أحمد وفيق الذي أدى دور طليق نيللي كريم سبق وأن عرفناه عند ظهوره كبطل مع يوسف شاهين في «سكوت ح نصور» ولم ينطلق بعدها وحصل على فرص عديدة في التلفزيون والسينما وآخرها «دكان شحاتة» لخالد يوسف ودائما ما كنت أشعر أنه لا يملك موهبة الأداء ولكنه مع شوقي الماجري استطاع أن يشحذ موهبته ليقدم أفضل ما لديه وأن يحيله إلى فنان ممثل قادر على التعبير.. موسيقى رعد خلف تمنح المسلسل عمقا وإبداعا مع تفوق ملحوظ لعنصر الأزياء والتصوير.. إنه المسلسل الأول الذي يستحق أن يكسب بلا منازع في ماراثون رمضان التلفزيوني ويحصل على المركز الأول. «الهدوء النسبي» يبدو وكأنه عنوان ليس فقط لفترات الراحة بين معركة ومعركة وقصف، ولكنه هدوء أيضا للمشاعر بين الأبطال.. إلا أن في الحالتين سواء على أرض المعركة أو دنيا المشاعر يظل هدوءا كاذبا لا يعبر عن الحقيقة.. فلا معركة توقفت لأننا لا نزال نشاهد العراق وهو يعيش معاركه ويحاول أن يسترد حريته كما أنه على أرض المشاعر العاطفية لا تزال متأججة.. في الحالتين نعيش مع هذا المسلسل الذروة.. ذروة الحرب والحب!