قصة حب وقصائد الشاعر جون كيتس في فيلم رومانسي

حياة قصيرة ومشاعر مكبوتة

مشهدان من الفيلم («نيويورك تايمز»)
TT

كان جون كيتس شاعرا رومانسيا، كما يتسم فيلم «نجم ساطع» الذي يروي قصة الشاعر وحبيبته فاني براوني خلال حياته القصيرة بالرومانسية كذلك.

وتقدم لغة الثقافة الشعبية والثقافة المتخصصة للتاريخ الأدبي معاني مختلفة لهذا المصطلح (الرومانسية)، ولكن فيلم المخرجة «جين كامبيون» الساحر والثقافي نجح في دمج المفهوم بدلالتيه النخبوية والشعبية، وفي تعقب عناصر التلاقي والاختلاف للإبداع الشعري والمشاعر العاطفية.

ويحمل هذا المشروع الكثير من المجازفات على الأقل نظرا لمستنقع الأكاذيب المضللة الذي وقف بين صانعة الفيلم وتحقيق أهدافها، ففي العقود الأولى من القرن التاسع عشر، كانت لبعض الشعراء شهرة وشعبية تضاهيان نجوم السينما، ولكن حياة هؤلاء الشعراء كانت تقدم بصفة عامة بطريقة سيئة في السينما، سواء بتجاهلهم كلية أو بالمبالغة في الإطراء عليهم وإجلالهم. بالإضافة إلى أن عصر الوصاية على العرش كان قد خدم الكثير من المخرجين الكسولين، الذين يميلون إلى التأليه، حيث كانت الفترة ملائمة لكي ينتقوا منها ما يريدون. وهناك بعض الأوقات التي يقترب فيها أداء كيتس ـ الذي يؤديه الممثل البريطاني النحيف والشاحب بن ويشو، الذي شارك في بطولة فيلم «العطر» وفيلم «أنا لست هنا» ـ من حافة الأداء الكاريكاتيري، فهو يرنو متأملا ويسعل (إيحاءا بمرض السل الذي سوف يقضي عليه بعد ذلك) وينظر حالما إلى الزهور والأشجار والصخور، لكن هذه اللحظات مع ذلك لم تبد مدروسة ومتوقعة، بل حملت مشاعر مفاجئة، وكان لها سحر أخاذ وهو ما يماثل أشعار كيتس نفسها، إذ تبدو أشعاره في البداية معقدة وعاطفية ولكنك بعد قراءتها عدة مرات، تكتسب الأبيات قوة وعذوبة. ومن جهة أخرى، فإن موسيقى الفيلم صعبة ومصطنعة حتى وإن كانت المشاعر التي تعبر عنها طبيعية وعفوية.

وعلى الرغم من أنه لا يوجد فيلم يستطيع اصطحابك داخل عملية إبداع تلك الأشعار نفسها، تمنحك السيدة كامبيون الفرصة لسماع هذه الأبيات وهي تلقى بصوت عال، وكأنها المرة الأولى التي تلقى فيها، لدرجة أنك سوف ترغب في البقاء داخل قاعة السينما حتى اللحظة الأخيرة من انتهاء التترات، ليس لكي تقرأ اسم كل عامل في الفيلم ولكن لكي تستمتع بكل مقطع شعري يلقيه السيد ويشو من «قصيدة إلى العندليب».

وتعد عبقرية كيتس ـ التي لم يقدرها النقاد في عصره، والتي احتفى بها عدد من أصدقائه الأدباء المخلصين ـ هي النقطة الثابتة التي يدور حولها فيلم «نجم ساطع»، كما أن الوله الذي تكتسي به لقاءات كيتس وبراوني الأولى هو القوى المحركة في الفيلم، الذي ينمو خلال الشهور التالية ويتحول إلى حب أبدي ومقلق في الوقت نفسه، حيث إن السيد كيتس ـ كما تناديه حبيبته تهذبا ـ يكون في بعض الأحيان خجولا وصعب المراس، ولكنه في الوقت نفسه لطيف، وفطن، ومخلص. وتعد شخصية براوني من الشخصيات المحورية في الفيلم، التي أدت دورها الممثلة أبي كورنيش بحيوية ورقة بالغة.

واستطاعت الممثلة الأسترالية كورنيش، التي تضمنت أفلامها السابقة «وقف الخسارة»، «حلوى»، «انقلاب» في عمر السابعة والعشرين أن تحقق مزيجا من الاستقلالية والسيطرة على النفس، لا تضاهيها فيهما إلا عدد قليل من مثيلاتها في السن أو الجنسية، فهي بمثل براعة كيت وينسلت التي وصلت إلى أقصى قدر ممكن من البراعة.

ولفاني، أكبر أبناء الأرملة (كيري فوكس) قدر من الذكاء الحاد الذي تتسم به بطلات جين أوستين، فهي تفتخر بنفسها باعتبارها خياطة موهوبة لديها حدس مسبق بالموضة، كما تتباهي باستقلاليتها، ولكنها في الوقت نفسه فاشلة، تفتقر إلى الشعور بالأمان، تلقي بنفسها في أحضان شاعر مفلس يحتضر، وهو الشيء الذي لا تقوم به أبدا أي من شخصيات أوستين العقلانية.

وإذا ما كان الأمر يتعلق فقط بالشاعر ومحبوبته، لاستغرق الفيلم في حالات الإغماء والتنهدات أو في الإيقاع الرتيب لقصائد الحب، فعلى الرغم من وجود مشاهد للرومانسية التقليدية ـ فراشات، حقول من الزهور، أيدي مرتعشة، ونظرات متضرعة ـ فإنها كانت متوازنة مع حالة من الدنيوية التي تتسم بالحيوية حينا وبالقسوة حينا آخر. فالمحبون مثل الشعراء ربما يضفون عالما خاصا من المشاعر على الواقع نفسه الذي نحياه نحن كل يوم.

ويعد العنصر الرئيسي المتمسك بالواقع في الفيلم هو تشارلز براون (بول شسندر) صديق كيتس ونصيره وخصمه الرئيسي في جذب انتباه فاني. وبالنسبة لبراون، تبدو فاني عامل تشتيت نظرا لكونها امرأة مثيرة، وذلك على الرغم من أن القوى الساخرة لمزاحهما تحمل عناصر إثارة في حد ذاتها. ويمكن حل ذلك الصراع في روايات أوستين بالزواج ولكن لدى فيلم «نجم ساطع» الذي يتتبع المسار الملتوي والغامض لقصة حقيقية، قصة أخرى ليرويها.

في بداية القصة، كان براون وكيتس جيرانا لبراوني في هامستيد في عام 1818، وفي أبريل (نيسان) من العام التالي أصبح الشاعر يسكن نصف المنزل، بينما تسكن فاني وأمها وأخواتها النصف الثاني لا يفصل بينهما سوى جدار. بعد ذلك بتسعة أشهر، يرسل مجموعة من الأصدقاء المخلصين كيتس إلى إيطاليا نظرا لتدهور صحته. تعد السيدة كامبيون واحدة من المستكشفين العظام للسينما الحديثة بحثا عن الحياة الحسية للمرأة، حيث تلقى الضوء على «الجانب المظلم» من سيغموند فرويد، بالتشكك أحيانا والتعاطف في بعض الأحيان والنقمة في أحيان أخرى. وكان من الممكن أن يتحول فيلم «نجم ساطع» إلى قصة بسيطة ومظلمة من الاضطهاد، حيث لا تحب الجماهير الحديثة شيئا أكثر من أن تطمئن إلى أنها تعيش في نظام اجتماعي أكثر حرية وتنويرا مما كان من قبل. ولكن حرصت على رسم شخصيات فاني وكيتس بحيث يتسمان بالعصرية، وعلى الرغم من أن تقاليد العصر الذي عاشا فيه كانت تفرض عليهما الكثير من القيود، فإنهما كانا ينظران إلى أنفسهما باعتبارهما أحرارا. كما يكشف الفيلم إدعاءات الفضيلة التي كانت تحيط بهما، ففاني لم تستطع الزواج من كيتس نظرا لفقره، ولكن براون يجتاز الفوارق الطبقية بسعادة لكي يلهو مع خادمة جاهلة وساذجة (أنتونيا كامبيل ـ هافس). وعلى الرغم من أن اضطرار فاني وكيتس التعبير عن مشاعرهما من خلال الخطابات والأشعار هو أمر يتسم بالقسوة فإنهما كانا يحاولان الحصول على أقصى استفادة ممكنة من الوضع. وكذلك فعلت السيدة كامبيون: حيث خلقت تتابعا، تبادل فيها المحبان وهما بكامل ملابسهما مقاطعا من قصيدة «السيدة الجميلة التي بلا رحمة» في غرفة خافتة الإضاءة، وعلى الرغم من ذلك فإن ذلك المشهد يعد من أكثر المشاهد إثارة في تاريخ السينما الحديثة، حيث نقلت حرارة اللحظة وغيرها من اللحظات المشابهة فيلم «نجم ساطع» من السجن الضيق لفترة الدراما الكلاسيكية. وأخيرا فإن السيدة كامبيون استطاعت من خلال حركات الكاميرا السريعة واللقطات المقربة غير المستقرة ونشاطها الاستثنائي أن تجعل من الفيلم فيلما رومانسيا بكل ما تحمله تلك الكلمة من معنى.

* خدمة «نيويورك تايمز»