اللبنانيون مثل «طنجرة الضغط».. وبرامج التنكيت «صمام الأمان»

المنافسة تتصاعد بين المحطات التلفزيونية لإضحاك المشاهد بأي ثمن

لقطتان من برامج التنكيت التي اصبحت تجتذب العديد من المشاهدين
TT

لا شيء يمنع اللبنانيين اليوم من متابعة برنامج «لول» الذي فاق نجاحه كل التوقعات. البرنامج قائم على التنكيت، بحيث يستقبل مقدما البرنامج هشام حداد وأرزة شدياق ثلاثة ضيوف يتبادلون بصحبتهم النكات، بحرية تامة لا تقيم حظرا على لفظ أو موضوع، ما عدا بعض الكلمات النادرة التي يقطعها «زمور سريع». ورغم أن البرنامج الذي تعرضه محطة «أو تي في» مساء كل أحد أثار الكثير من الاعتراضات، وصدرت ضده بيانات اعتبرته شائنا وبذيئا، فإنه مستمر ولا يوجد ما يشي بأي تعديل على موعده الأصلي، أو إعادته في اليوم التالي في وضح النهار.

ويقول ديمتري خضر مدير تلفزيون «الجديد» لـ«الشرق الأوسط» إن: «برامج التنكيت والفكاهة، باتت تتمتع بنسبة مشاهدة عالية جدا. برنامج (لول) نقل تلفزيون «أو تي في» من المرتبة الخامسة في المشاهدة إلى المرتبة الثالثة، مما يعني أننا أمام نجاح كبير». ويضيف خضر شارحا: «نتلقى يوميا إحصاءات حول نسب المشاهدة. وما نعرفه أن برنامج (لول) يحظى بنحو 14 أو 16 نقطة بينما، برنامج (كلمنجي) على (إل بي سي) يحظي بنسبة مشاهدة أكبر وصلت إلى 22. لكن هذا لا يعني أن (كلمنجي) أكثر نجاحا من (لول) وإنما تخضع القياسات أحيانا لاعتبارات غير موضوعية، لها علاقة بتوجهات العينة المختارة وانتماءاتها».

«كلمنجي» هو البرنامج المستجد على مجموعة البرامج الفكاهية على «إل بي سي» الأرضية، وقد جاء بعد نجاح «لول» ليسجل بدوره نسبة مشاهدة فاقت تلك البرامج التي كانت تُعتبر في السابق من الأكثر إضحاكا مثل «ب. س. م. ا. ت. و. ط. ن» و«دمى قراطية» و«8 و14 ونحنا». وميزة «كلمنجي» كما «لول» أنهما خرجا كليا من مجالي الانتقاد السياسي والاجتماعي، ليكتفيا بالتنكيت المجاني. وتدور حلقات «كلمنجي» داخل باص، يجوب المناطق اللبنانية، ويتبادل ركابه النكات. ويذهب مقدم البرنامج إلى اللبنانيين في مناطقهم، ليطلب منهم رواية نكاتهم ويعرضها على الجمهور. ورغم أن «إل بي سي» اكتفت حتى الآن بعرض غالبية برامجها الفكاهية على المحطة الأرضية لصبغتها المحلية، فإن نجاح التجربة يجعلها تتشجع لتنقلها إلى الفضائية بدءا بـ«كلمنجي»، وربما سيفسح برامج أخرى في المجال لمشاهدتها من قِبل جمهور أعرض. وتتسابق المحطات التلفزيوينة اللبنانية، هذه الأيام، على إضحاك المشاهد، وابتكار البرامج المضحكة، بعدما تأكد أن المزاج العام بات يميل إلى التنكيت والتهريج، بعيدا عن النقد. فبمجرد أن انتهت الانتخابات النيابية في يونيو (حزيران) الماضي، والتي ترافقت مع صعود كبير لبرامج «التوك شو» السياسية، باتت فترة ما بعد الأخبار المسائية، وهي فترة الذروة في المشاهدة، محجوزة للسخرية والتنكيت. فقد احتفى عن شاشة «إل بي سي» برنامجان سياسيان أساسيان هما «بكل جرأة» لمي شدياق و«أنت والحدث» لشدا عمر، دون أن يستبدلا ببرامج سياسية أخرى، فيما تعطى أولوية أكبر للضحك. في «إل بي سي» لا يخفون رضاهم عن النتائج، وثمة من يخبرك بأن المحطة تحاول أن تبقي على توازن في توزيع البرامج وتنويعها لكنها تأخذ بعين الاعتبار أيضا مزاج الناس الحالي. فالضحك يأتي بإعلانات وفيرة وهذا مأخوذ بعين الاعتبار».

وهكذا بات بمقدور المشاهد أن يتابع على شاشة «أو تي في» وحدها 4 برامج من هذا الصنف، معظمها يعاد في اليوم التالي، ومنها ما هو يومي، مما يضمن للمتفرج ضحكا متواصلا لو أحب. وتقول رحيل، مساعدة مدير البرامج، في تلفزيون «أو تي في»: «إن النتائج مشجعة جدا، بدليل كثافة الإعلانات على برنامجي (لول) و(أفريرا)، وبدليل أيضا أن المحطات الأخرى باتت تقلد برامجنا. صرنا نعرف أن الناس تريد مشاهدة برامج كوميدية، غير مسيسة ونحاول إرضاءهم، وثمة توجه لتقديم برنامج جديد سيكون قريبا جدا في روحيته من برنامج لول».

يقول ديمتري خضر مدير تلفزيون «الجديد»، الذي يكتفي ببرنامجين ساخرين هما «إربت تنحل» و«نجوم الظهر» إن بين المحطات تنافسا شديدا ولعلها معركة حقيقية. ويضيف خضر: «تلفزيون (إم تي في) يحضّر لبرنامج تقدمه ميراي مزرعاني لتكسير (لول)». وعن توقعاته لنتائج المعركة يقول خضر: «سنصل إلى إحدى نتيجتين. إما أن السوق تصبح متخمة بالهزل والضحك وإما أنهم سيكسر بعضهم بعضا». رافضا البوح باستراتيجية قناته التي لم تدخل هذه المنافسة بعد ولا تزال تكتفي حتى اللحظة ببرمجتها القديمة في مجال الإضحاك.

كرستين الجميل، مساعدة مدير البرامج في تلفزيون «إم تي في» ترفض تماما أن تكون المحطة في منافسة أو محاولة تحطيم أو تقليد أي كان، وتقول إن محطتها لها برامجها مثل «أسأل شي» و«كيفني معك» واستجد برنامج «سي آي إيه». ورغم أن أحد أهم عناصر هذا البرنامج وهو المقلد إيلي الراعي قد تم اجتذابه من «أو تي في» حيث كان يشارك في البرنامج الفكاهي «عشرة بعد النشرة» فإن الكلام عن المنافسة يبدو مثيرا للغضب لا بل ومستفزا، هذا بالإضافة إلى تكتم شديد للغاية تحيط به التلفزيونات خططها وأفكارها خشية سرقتها.

لكن كيف طارت البرامج السياسية بتجهمها وجديتها بعد أن كانت زادا يوميا للبنانيين في المساء وحلّ مكانها الضحك والتنكيت؟ وما أسباب هذا التغير الطارئ في المزاج؟ المحلل النفسي د. هشام بزي لا يجد تفسيرا لهذه الظاهرة سوى أن اللبنانيين «يعيشون سلوكا هروبيا من الواقع. وهذا دليل على أنهم بالفعل ما عادت عندهم أعصاب تحتمل الضغط بعد سنوات من المعاناة السياسية وكذلك الأمنية». وهو رأي مشابه أيضا لوجهة نظر د. فردريك معتوق، وهو باحث اجتماعي وأستاذ في الجامعة اللبنانية يرى في الميل إلى الهزل والتنكيت وجها إيجابيا، بل يصف الظاهرة بأنها صحية، ويضيف: «في الفترات التي تتعرض فيها المجتمعات للضغط، يبحث الناس عن فتحات لتنفيس الأجواء المحتقنة. وهو سلوك سليم للغاية، وإلا تحول الناس إلى مجانين أو اضطروا إلى الهجرة. علينا أن نتذكر أن دريد لحام كان يلعب هذا الدور للتنفيس السياسي في سورية. ولكل مجتمع أساليبه في الترفيه والتخفيف عن نفسه، ويبدو أن الوصفة في سورية ولبنان هي الضحك». ويضيف معتوق: «بشكل مباشر نستطيع أن نقول إن اللبنانيين سئموا طبخة السياسية وباتوا بحاجة إلى التغيير». ويشرح معتوق بأن «الإنسان بطبيعته ميال إلى الأسهل، وهذا سلوك فطري. ومن غير المنطقي أن يكون كل شيء في الحياة جديا، كما أنه ليس من الإيجابية أن تكون كل البرامج جدية، الإنسان بحاجة إلى اللهو والترفيه والهزل، وهذا طبيعي وفطري». التلفزيونات من جانبها لها منظورها التجاري، وربما ستبقى تتسابق على تنازع المشاهدين الراغبين في الترفيه حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

بعض البرامج الساخرة كانت قد أثارت الحساسيات في لبنان لا سيما برنامج «بسمات وطن» حين عمد إلى تقليد السيد حسن نصر الله وأثار موجة من الغضب الشعبي بين أبناء الطائفة الشيعية. وأيام الوجود السوري في لبنان كانت الرقابة تمنع بعض حلقات البرنامج وتحذف اسكتشات لا تُرضي القيمين على الوضع حينها. لكن برامج التنكيت الجديدة، البعيدة عن السياسة، تثير حساسيات من نوع آخر، خصوصا لدى جمهور محافظ، يرى في بعض النكات بذاءة غير محتملة، وإباحية لا بد من ردعها، يشاركهم رجال دين لا يشعرون بالرضا عن كلام يرون أنه تجاوز الحدود. لكن يروي أحدهم أنه راجع أحد المسؤولين السياسيين الكبار، طالبا منه وضع حد «لمهزلة (لول) وإباحية نكاته» على حد قوله. وما كان من المسؤول الكبير إلا أن قال له: «ليش ما عندك ريموت كنترول؟ يا أخي غيّر المحطة!»، والحقيقة أن «لول» ليس وحده ما يثير احتجاجات وإن كان الأكثر إثارة للجدل، فبرنامج «أوفريرا» بدا للبعض استفزازيا أحيانا، وبدرجة أقل «كلمنجي». لكن السؤال كيف سيكون المشهد، مستقبلا، خصوصا وأن المنافسة تتصاعد، ولا بد أن التلفزيونات ستشعر بأن مزيدا من الإباحية في التنكيت سيأتي بمزيد من المتفرجين؟ فرغم التبرم من برنامج «لول» نجد المتبرمين أنفسهم لا يخفون متابعتهم له، ومن لا يلحق به في موعده، يعُد إليه على «اليوتيوب» حيث باتت حلقاته موضع اهتمام الإنترنتيين أيضا. ديمتري خضر، مدير تلفزيون «الجديد»، يعتبر أن الاعتراض على «لول» يأتي من جماعة يدّعون «الطهرانية»، في وقت بات فيه كل شيء مفتوحا للناس، ويريدون منع هذا وحذف ذاك. يعترف خضر أن «قانون الإعلام متخلف في لبنان، والمجلس الوطني للإعلام لا يملك آلية مراقبة ولا تنفيذ. الحل ليس في توقيف برنامج أو حذف أجزاء منه، وإنما المسألة تحتاج إلى شيء من الحس بالمسؤولية. يكفي أن ينبه في بداية عرض البرنامج أنه مخصص للكبار وأن يقدم في وقت متأخر دون إعادته في اليوم التالي خلال النهار».