طلة روحانية في فيلم تركي.. ومعالجة للشأن الإسلامي في أكثر من فيلم

ضمن فعاليات مهرجان برلين السينمائي

لقطة من الفيلم التركي «عسل» (Honey)
TT

نصف أيام المهرجان مضت شاهدة على أن هذه الدورة هي واحدة من أفضل دوراته منذ سنوات يصعب حصرها. الأفلام المختارة متنوعة في طروحاتها ومواضيعها وأساليبها، ومتشابهة في كون معظمها فوق خط الوسط من حيث القيمة.

وهذا ليس حصرا بأفلام المسابقة فقط، بل يمتد ليشمل أفلام البانوراما المختلفة، علما بأن عدد أفلام المهرجان قد بلغ حدا أقصى يصبح معه السينمائي، ناقدا كان أو منتميا إلى أي حقل عمل آخر، غير قادر على رصد كل ما يحويه المهرجان من أفلام.

في هذه الناحية وحدها، يتمنى المرء لو أن المهرجان يتخلى عن سياسة التكثيف ورفع عدد الأفلام (400 في عشرة أيام!)، والعودة إلى بعض أيامه السابقة حين كان من المتاح الانتقال بين العروض في أربعة أقسام رئيسية على نحو سهل ويسير توقيتا. الحال اليوم أن المرء يجد نفسه إذا ما اهتم بأفلام المسابقة والعروض الرئيسية وأفلام البانوراما، غير قادر على منح قسم «فورام» ما يستحقه من اهتمام. وإذا ما أراد المشاركة في تحية المهرجان لمجموع الأفلام التي يعرضها بمناسبة مرور ستين سنة على انطلاقته (وهي الأفلام التي سبق لها أن فازت بالدب الذهبي خلال ذلك التاريخ) فإن عليه ألا يفعل أي شيء آخر تقريبا.

* الوجه المضيء للإسلام

* الإسلام ومحاولة قراءته والتعرف عليه وتصنيف من هو الإرهابي، ومحاولة فصل ذلك عن الإيمان بحد ذاته، كلها أمور يتمحور حولها أكثر من فيلم معروض على شاشات برلين هذا العام.

أمس الخميس، مثلا، شهدنا في فيلم المسابقة «على الدرب» طرحا يلقي ضوءا تعريفيا على علاقة الإنسان المؤمن بالبيئة غير المتدينة بالضرورة، وذلك من خلال قصة امرأة بوسنية مسلمة تلحظ تغييرا في عادات زوجها. فقد ترك سلوكياته السابقة من سهر وشرب وحياة ترف إلى أخرى من التقشف والتعبد، ومن خلال ذلك التحول تطرح المخرجة ياسميلا زبانيتش، حسبما تقول، صوتا مختلفا «ما نقرأه ونشاهده من شخصيات ومواضيع تتعلق بالمسلمين عبارة عن شخصيات ومواضيع نمطية، وفي معظمها هي صراخ وليس حوارا. آمل أن يستطيع هذا الفيلم توفير نظرة مختلفة تضم وجهة نظر جديدة وواقعية لما يمر به المسلم من تطورات في شؤون حياته وانعكاس ذلك على المحيط الذي يعيش فيه».

الموضوع ذاته متوفر على صفحة فيلم «شهادة»، الفيلم الروائي الأول لمخرج إيراني الأصل يعيش ويعمل في ألمانيا اسمه برهان قرباني، ويدور حول ثلاث شخصيات مسلمة وكيف ترى العالم المحيط بها في هذا العصر.

الفيلم التركي «عسل» ليس فيلما عن موقع الدين في الحياة، لكنه مليء بالصور الواقعية الجميلة للبيئة الإسلامية في الوقت ذاته. إنه عن صبي يعيش في قرية تكمن في جبال آسيوية تبدو معزولة. عالم قائم بحد ذاته، وحسب تعبير ناقد ألماني «قريب جدا منا وبعيد جدا منا في وقت واحد». والده يعمل في جمع العسل من الخلايا التي يزرعها في أعالي أشجار المنطقة. في مطلع الفيلم نراه وحصانه في قلب الغابة يختار شجرة. يرمي الحبل على إحدى أذرعها ويبدأ بالتسلق ليصل إلى الخلية. في منتصف الطريق على تلك الشجرة الطويلة المنتصبة بلا نتوءات أو انحرافات، ينكسر الغصن الذي علق الحبل به ويجد الأب نفسه بين السماء والأرض لا يستطيع الحركة لئلا ينفصل الغصن عن الشجرة ويسقط الرجل من ذلك العلو الشاهق.

البداية وحدها آسرة، لكن الفيلم بعد ذلك لا يقل في مطارح عدة وقعا، عائدا بزمنه إلى ما قبل الحادثة التي يشكل منها الفيلم بدايته.

نتابع في بطء مقصود قصة صبي لا يجد في بيئته ما يحفزه على التواصل مع الآخرين. حين يتحدث لأبيه فإنه يهمس، وهو لا يتحدث مطلقا إلى والدته، ليس عزوفا عن حنانها أو كرها لها، بل تجسيدا لحالة يخفق الفيلم في شرح أسبابها لكنه لا يخفق في جعلها مهمة ومحورية في رصد وضع ذلك الصبي في البيت أو في المدرسة. حين لا يجد الأب أن خلايا النحل التي زرعها في قمم الأشجار تؤتي الكثير من العسل، ولا يعلم أين اختفى النحل من المكان يقرر الذهاب إلى منطقة أبعد. بعد يومين تبدأ الزوجة بالقلق عليه، ويتابع الفيلم ما تمر به العائلة الصغيرة من دون أن يفقد الصبي مكانته المتوسطة لكل شيء. اليوم الذي يقرر فيه الأستاذ منحه وسام تقدير لا يستحقه تشجيعا له على تجاوز عثرات نطقه وقراءته الناتجة عن شعوره الدائم بالعزلة الداخلية، هو اليوم الذي يعود فيه إلى البيت ليسمع من الشرطي فشل البوليس في العثور على أبيه. يرمي بحقيبته أرضا وينطلق إلى الغابات الكثيفة يهديه إلى الطريق صقر كان أبوه قد رباه. لكن اللقطة الأخيرة للصبي وهو جالس يستند إلى جذع شجرة وقد هبط الليل وساد الصمت وانتشر الظلام الداكن لا توحي بأنه وجد والده. فقط تقترح مزيدا من نشأة الصبي المعزولة.

نشاهد الأب يصلي في مشهد، ونسمع قراءة سورة «الناس» في مشهد آخر، وفي مشهد ثالث تتداول النساء سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، مستمعات إلى أم الرحلات في التاريخ، تلك التي اختير لها الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليلة الإسراء فجاب مراتب الجنة. ومع أن هذا الحديث لا يلقي بظلال موازية لما يحدث مع الصبي في عالمه ذاك، فإنه يرصف طبيعة القرية التركية السنية المسلمة ويقدمها بوداعة وبلا تحامل. المخرج سميح قبلانغلو ينجز فيلما يحمل سمات واقعية واجتماعية، ومن ضمن تلك السمات علاقة روحية قوية بالمصدر. المشاهد الممعن إذ يعيش صورا من الطبيعة الآسرة لا بد أن يلحظ أن هناك سببا في إمعان المخرج التقاط مشاهد من الإبداع الإلهي، سواء أكان ذلك عبر مشهد نهر دافق أو شتاء منهمر أو أشجار باسقة وجبال شاهقة.

الفيلم الجديد لقبلانغلو هو الثالث له في ثلاثية بدأت بـ«حليب» و«بيض»، وارتبطت جميعا بالبيئة التركية المعزولة. وفي هذا الفيلم هناك إشارات عدة، ولو تلقائية، للحليب من حيث رفض الصبي شربه، ومشهد نراه فيه يحمل ثلاث بيضات لوالدته لكي تصنع لزوجها حلوى حين يعود. تلك العودة التي ينتهي الفيلم دون أن تتحقق.

* إيرانيون في المهجر

* برهان قرباني ليس المخرج الإيراني الوحيد الذي وجد في ألمانيا الكنف الذي يستطيع اللجوء إليه لتحقيق أفلامه. هناك أيضا رفيع بيتز الذي شاهدنا له قبل تسع سنوات فيلما لافتا بعنوان «صنم». ذاك صوره في إيران على عكس فيلمه الجديد «الصياد» الذي من المرجح أنه صوره في منطقة بافاريا الألمانية. إنتاجيا هو تمويل ألماني ولو أن المهرجان يقدمه تحت راية إيرانية.

رفيع بيتز نفسه يقوم بالبطولة لاعبا شخصية سجين سابق يعود إلى زوجته وابنته ويتسلم عملا في أحد المصانع. في أحد الأيام يكتشف اختفاء عائلته فيتجه إلى مركز البوليس للسؤال. مراجعاته هناك بطيئة والبوليس متلكئ في عمله ولو أنه يعلمه أن زوجته قتلت خلال المظاهرات التي جرت في العام الماضي. البوليس يعتقد أن زوجته لم تشترك فيها لكنها وجدت نفسها بين نارين وسقطت كضحية بريئة. أما الابنة فقد اختفت والبحث جار عنها.

يحمل الأب صورة ابنته ويقف في الشوارع عارضا إياها على المارين، ثم يعود إلى مركز البوليس لمزيد من المعلومات. حين لا يفضي كل هذا إلى شيء يفقد أعصابه ويقتل شرطيا ويهرب، ثم يترصد سيارة بوليس منطلقة ويقتل شرطيا آخر فيها وينطلق هاربا إلى الغابات مسلحا ومطاردا. شرطيان يطاردانه وينجحان في اعتقاله. أحدهما يريد قتله على الفور. والثاني يريد الدفاع عنه. النهاية تميد بالفيلم وتجعله يبدو كما لو أن كل الغاية منه هي قفل حلقة العلاقة بين بوليس منحرف ومجرم خطر، في حين أن الرسالة التي تتراءى من بعيد والتي يقوم المخرج - الممثل بالتضحية بها هي اجتماعية عن وضع منفجر وحافل بالإحباطات. هناك حديث عن فساد البوليس، لكن النموذج الفردي المقدم ليس ذا شأن كون السيناريو لا يستوعب أسبابا بل يقدم حالات وحدها.

المؤكد أن فيلما، حتى على هذا المستوى المتردد في تصويب نقده، لن يمكن تنفيذه في إيران اليوم. هذا ما يقف وراء هجرة أفضل الخبرات الإيرانية إلى الغرب (كياروستامي، مخمالباف) أو مكوث آخرين فيها بلا عمل متواصل أو مستقل. لكن في شتى الأحوال، فإن السينما الإيرانية أنجزت في السنوات العشرين الأخيرة موقعها على الخريطة العالمية بفضل سلسلة من الأفلام التي غولي في تقدير معظمها. المرجح أن الوسطين السينمائي والإعلامي دلفا إلى تحت مظلة السينما الإيرانية الجديدة مدفوعين بالفضول لمعرفة ماهية ما سمي بـ«الثورة الإسلامية» ثم - حين تطور الوضع السياسي في إيران إلى المجابهة مع الغرب كما هو الحال الآن - انتقل الفضول إلى محاولة تعزيز تلك الجهود السينمائية الخارجة عن المألوف، مما يفسر كيف أن «الصياد» موجود داخل المسابقة. ليس لأنه فيلم رديء التنفيذ، لكن مهرجانا آخر في ظرف آخر ربما كان تردد في إدخاله المسابقة وفضل له عرضا ما خارجها.

* متابعات

* اهتمام ملحوظ بفيلم «رسائل البحر»، جديد المخرج المصري المتمكن داوود عبد السيد، تبدى من خلال نجاح عروضه في سوق الفيلم الذي يؤمه جمهوره الغفير من موزعين ومنتجين ومديري مهرجانات يبحثون عن الجيد والجديد من الأفلام. الاهتمام بلغ حدا دفع شركة «أرابيا» التي تقوم بالترويج له ولعدد من الأفلام المصرية الحديثة، إلى إضافة عرض آخر للفيلم الذي يعود به عبد السيد إلى السينما بعد غياب سنوات عدة.

* نجحت شركة «آيكون إنترناشيونال» في بيع مسبق لفيلم ميل غيبسون المقبل «كيف أمضيت عطلتي الصيفية» وذلك قبل البدء بالتصوير. هذا النموذج من العمل (بيع مسبق للتصوير) كان من بين أكثر النماذج عرضة للانهيار في السنوات الأخيرة حتى من قبل الأزمة المالية العالمية. خلالها بدا الأمر مستحيلا، لكن نجاح فيلم ميل غيبسون الجديد «حافة الظلام» (المعروض حاليا في أوروبا) أسهم في عملية الترويج لفيلمه المقبل الذي من المفترض أن يباشر الآن بتصويره بعد الصيف المقبل.

* لقاء من دون موعد بين المخرجين الأميركي مارتن سكورسيزي (المشترك بفيلمه «جزيرة مغلقة») والدنماركي لارس فون ترايير (الزائر فقط)، ساعد على ترويج إشاعة مفادها أن اللقاء لم يكن صدفة، بل خطط له لأجل البحث في التعاون على فكرة قيام فون ترايير بإعادة صنع فيلم «سائق التاكسي» الذي كان سكورسيزي حققه في السبعينات. لكن متحدثا باسم المخرج الدنماركي نفى أن الحديث تناول البحث في أي مشروع مشترك.

* حسب قائمة مجلة «سكرين إنترناشيونال» المؤلفة من تقييم ثمانية نقاد دوليين لما شاهدوه من أفلام المسابقة، فإن الفيلم الروماني «إذا كنت أريد أن أصفّر، سأصفّر» هو الفيلم الأكثر نيلا لإعجاب هؤلاء النقاد، في حين أن الفيلم النرويجي «رجل طيب على نحو ما» هو أقل تلك الأفلام استحواذا على الإعجاب.