الفيلم الفلسطيني «المر والرمان».. يواجه تحديات السوق في عرضه الأول بالقاهرة

أبطاله يقاومون العنف الإسرائيلي بالإصرار على الحياة

TT

تجربة هامة جدا، بل استثنائية، بدأت فقط قبل يومين في القاهرة، وهي عرض الفيلم الفلسطيني «المر والرمان» في مصر.. نادرا ما تُعرض أفلام عربية - غير مصرية - عروضا تجارية بالقاهرة، وفي الحالات القليلة التي وجدت هذه الأشرطة مكانا لها داخل السوق المصرية التقليدية كان مصيرها الفشل التجاري.. عرض قبل عامين مثلا الفيلم السعودي «كيف الحال»، وأيضا اللبناني «بوسطة»، ثم تبعه الفيلم اللبناني «سكر بنات» - كراميل - الذي سبق له أن عرض في قسم «أسبوع المخرجين» بمهرجان «كان» في الدورة قبل الأخيرة، وكانت النتيجة أن الفيلم الحاصل على عشرات من الجوائز داخل وخارج الوطن العربي، والحاصل أيضا لبطلته ومخرجته نادين لبكي على جوائز التمثيل والإخراج، لا يستطيع الصمود سوى أسبوعين فقط في دور العرض بالقاهرة، بينما تأتي إيرادات باريس التي تواكب نفس توقيت عرض الفيلم هناك لتؤكد أن الجمهور الفرنسي أكثر إقبالا على الفيلم. وبالمناسبة، لم تكن الأغلبية من أصحاب الأصول العربية هم رواد الفيلم.

هذه المرة نحن مع الفيلم الفلسطيني «المر والرمان»، وهي المرة الأولى التي تفتح أبواب دار عرض مصرية لفيلم فلسطيني عرضا جماهيريا. حصل الفيلم قبل أيام قليلة على جائزة أفضل ممثلة، ياسمين المصري، وأفضل تصوير، فانتينا كانيليا، من مهرجان مسقط السينمائي الدولي. الفيلم هو التجربة الروائية الأولى لنجوى النجار، التي شاركت أيضا في كتابته. تجري أحداث الفيلم الرئيسية داخل رام الله، وتمزج الأحداث بين مشاعر الحب والتوق إلى الحرية الشخصية المنصهرة بحرية الوطن. الجدران والقيود والقضبان التي تفرضها القوات الإسرائيلية على الإنسان الفلسطيني نراها أيضا وقد مورست بقسوة وضراوة أشد على بطلة الفيلم، ياسمين المصري، اجتماعيا ونفسيا بالأقوال أو بالنظرات. تبدأ الأحداث بحفل عرس ورقص يشارك فيه الجميع، وتنتهي أيضا برقصة تقدمها البطلة على خشبة المسرح، وبين البداية والنهاية نرى الحكاية التي تذوب فيها حدود الوطن بمشاعر البشر. من خلال مشهد زواج شابين متحابين في الكنيسة تحرص المخرجة نجوى على أن تقدم لنا كل الطقوس الفولكلورية الفلسطينية المرتبطة بيوم العرس، سواء أكانت دينية أو شعبية. نعيش لحظات الفرح التي تعبر عنها المخرجة بقدر كبير من الإمتاع البصري. الزوج الفلسطيني، أدى دوره أشرف فرج، لديه أرضه في رام الله التي يعيش على ما تطرحه من زيتون، ولكن إسرائيل كعادتها لا ترضى سوى بالاغتصاب لكل ما هو ليس من حقها، ولهذا تطمع في انتزاع جزء من الأرض. يشتبك بطل الفيلم مع القوات الإسرائيلية في أثناء دفاعه عن أرضه، ويزج به إلى المعتقل بعد أن أشبعوه ضربا وركلا وكأنهم يقدمون رسالة إلى الجميع بأن أي اقتراب من الجندي الإسرائيلي سوف يواجه بكل هذا العنف. الزوجة التي لا تزال تعيش بمشاعرها مع زوجها هي أيضا تمارس الرقص الاستعراضي من خلال فرقة تقاوم الاحتلال بالحياة والحرص عليها. وهكذا تجد المخرجة حالة من التوازي الدرامي بين تدريبات الرقص للبطلة وبين زوجها داخل قضبان الزنزانة الإسرائيلية.. إن الاحتلال فرض على الجميع أن يتواصلوا.

أرادت والدة البطل أن تضمن الحرية لابنها، وهكذا تطلب من محامية إسرائيلية الدفاع عن ابنها. ويحرص السيناريو على أن يقدم المحامية الإسرائيلية متعاطفة مع القضية وأصحابها، لكنها تعلم أيضا أن القوانين صارمة جدا وأن الثغرة الوحيدة الممكنة لإخراجه من السجن هي أن يبيع أرضه للسلطات الإسرائيلية، ولكن والدة البطل ترفض وتبحث عن حل آخر، والبطل يتحمل أيضا العذاب في السجن والبعد القسري عن زوجته في شهر العسل من أجل أن لا يوقع على بيع الأرض. الرؤية الدرامية والسينمائية تقدم تفاصيل تبدو صغيرة لكنها تعبر عن إرادة شعب حاول ولا يزال يقاوم الإغراءات.. ما الذي تريده إسرائيل؟ ليس فقط الاستحواذ على الأرض، إن هدفها الأساسي هو أن تقتل الحياة. ولكننا مع أسرة تعيش على بيع الزيتون الذي تنبته الأرض، ليس فقط كمشروع اقتصادي، ولكن الأرض تصبح هوية لكل فلسطيني، ولهذا تصر إسرائيل على خطفها وانتزاعها من أيدي أصحابها الأصليين. لا نجد الكثير من الدماء والعنف وضربات الرصاص، بل إننا في إحدى ليالي القصف الإسرائيلي نجد أن المخرجة تكتفي بأن نتابع الأبطال في المقهى الذي تديره هيام عباس، ونستمع إلى أصوات زخات الطلقات خارج المقهى، لكننا لا نرى إلى أين تتجه، ورغم ذلك نرصد بالتأكيد المعاناة التي تؤدي إلى أن ينام الأبطال: مدرب فرقة الرقص الذي أدى دوره علي سلمان، وصاحبة المقهى التي أدت دورها هيام عباس، وابنها، وياسمين النجار، على فراش واحد على الأرض وليس لديهم وسيلة أخرى.. ثم تخرج صاحبة المقهى في الصباح وهي تقول للعسكري الإسرائيلي إنها لا تخشى «البارودة» - المقصود بها البندقية - التي يحملها ويصوبها ناحيتها، ليصل المعنى الأعمق، وهو أن الإنسان الفلسطيني لا ينكسر.

الضغوط الاجتماعية هي المحور الذي تناقشه نجوى النجار، كيف للمرأة أن تخرج وتمارس حياتها وزوجها في المعتقل؟ وتأتي الإجابة لأن إسرائيل تريد أن تغتال الحياة بكل أطيافها، إذا كان الزواج تم رغم الاحتلال والقيود التي تضعها إسرائيل في الانتقال من مكان إلى آخر، فإن الحياة تفرض على كل فلسطيني النضال من أجل أن يستمر البقاء على الأرض. إنها الوسيلة الوحيدة الممكنة لكي نواجه المحتل الإسرائيلي بقوة التمسك بالحياة.

تقدم المخرجة هذا التوازي بين مشاهد الزوج في المعتقل وفرقة الرقص التي تشارك فيها الزوجة لتقفز في مقدمة الرؤية والكادر. تلك الحالة السينمائية والفكرية التي تجمع بين الوطن ومشاعر الإنسان. أحاسيس المرأة المكبوتة والمعلنة، هذا هو ما تقدمه نجوى النجار في الفيلم، وهكذا مثلا نرى أن مدرب الفرقة يشعر بميل عاطفي ناحية ياسمين المصري، وهي لديها مشاعر كبت جنسي، وأيضا يحركها عشقها للرقص لكنها لم تحب هذا الرجل مطلقا. هو أيضا مقيد بأفكار أنها المرأة المحرومة التي سوف تستسلم بمجرد أن يرمي لها الخيط، ولكنها في أكثر من مشهد تتأكد أن حبها الحقيقي لزوجها في المعتقل.

ويخرج من السجن إفراجا مؤقتا، لا يهم كيف حصل على الإفراج، ولكنه يعود وتستمر الحياة، وتقدم استعراضا عنوانه «المر والرمان» على مسرح مدينة ملاهٍ استطاع مدرب الفرقة الحصول عليه. إنها رقصة فولكلورية تقول بصوت عالٍ إن إسرائيل تريد أن تطمس الروح لكن الإنسان الفلسطيني لن يستسلم، لن يفرط في أرضه ولا ثقافته ولا حضارته ولا فولكلوره وغنائه وموسيقاه.

لمحات خاصة وتفاصيل غنية بالإحساس عبرت عنها نجوى النجار، مثل زيارة البطلة للسجن، وكيف أنها تتوق إليه كما يتوق هو إليها خلف الأسلاك.. أيضا الخيط الرفيع الذي يربطها بمدرب الفرقة، والذي نراه غير مدرك للحدود.. ولهذا عندما يطردها من سيارته الخاصة احتجاجا على رفضها أن تكمل العلاقة، أو ما تصور أنه علاقة، إلا أنها تأتي يوم العرض لتصعد إلى خشبة المسرح، فهذه هي العلاقة الحقيقة التي تربطها مع مدرب الرقص. وفي مشهد آخر نرى زوجها وهو يضمد جراح قدميها بعد أن دميت في تدريب قاسٍ، فهو لا يزال متعاطفا معها مدركا معاناتها الشخصية والنفسية. أداء جيد للبطلة ياسمين المصري، وأيضا هيام عباس في مشاهدها القليلة، وأشرف فرج الذي أدى دور الزوج، ولكن علي سليمان الذي أدى دور مدرب الرقص كان يحتاج إلى مرحلة تدريب أكبر قبل الوقوف أمام الكاميرا.

الفيلم يعنيه بالدرجة الأولى الإنسان الفلسطيني في معاناته مع الحياة والآخرين، بل وتمزقه النفسي الداخلي. لم ننسَ ولن تنسَ المخرجة إدانة العنف الإسرائيلي، لكنها قالت كل ذلك برقة وشاعرية وعذوبة.

وتبقى التجربة السينمائية التي ننتظرها وإلى أي مدى تنجح جماهيريا. أشك بالطبع في النجاح التجاري بالقاهرة، ولكنها في كل الأحوال تظل بمثابة محاولة لكسر الحصار المفروض على السينما العربية في مصر.

[email protected]