هل يصلح الأدب ما أفسده السينمائيون؟!

TT

إنه سؤال يبدو عند البعض يحمل إجابته في داخله، والإجابة هي: نعم.. السينما عندما تستند إلى الأدب تصل إلى ذروة آفاق التعبير، لأن هذا يعني الجدية في كل شيء، ثم إن الأدباء الكبار الذين نهلت السينما من أدبهم.. ولا تزال تحقق أفلامهم عادة القدر الأكبر من الإقبال الجماهيري.. وهي مطلوبة الآن في القنوات الفضائية، رغم مرور 60 أو 70 عاما على بعض هذه الأفلام.. كانت أسماء هؤلاء الكتّاب تشكل عامل جذب للجمهور، وسوف نجد مثلا أن كلا من إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ قدمت السينما ما يربو على 43 فيلما لكل منهما، ولا تزال السينما بعد رحيلهما تنهل من أدبهما لتطعم به الشاشة الفضية.

لو أحصينا الأفلام التي دخلت تاريخنا الإبداعي لوجدنا قسطا وافرا منها مأخوذا عن أعمال أدبية.. أقول «قسطا وافرا» وليس القسط الأكبر.. وسوف أضرب لكم مثلا عمليا بالأرقام.. أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية طبقا للاستفتاء، الذي أشرف عليه الكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبه باعتباره رئيسا لمهرجان القاهرة الدولي السينمائي، وذلك عام 1995 وشارك فيه مائة من النقاد والفنانين والفنيين، أسفر عن: «العزيمة»، «الأرض»، «المومياء»، «باب الحديد»، «الحرام»، «شباب امرأة»، «بداية ونهاية»، «سواق الأتوبيس»، «غزل البنات»، «الفتوة».. الأفلام المأخوذة عن روايات أدبية هي: «الأرض» عبد الرحمن الشرقاوي، «الحرام» ليوسف إدريس، «بداية ونهاية» نجيب محفوظ.. أي إن النسبة لم تتجاوز 30 في المائة!! يجب أن نفرق بين القصة السينمائية والقصة الروائية.. «شباب امرأة»، مثلا، هي قصة سينمائية لأمين يوسف غراب وليست رواية.. «سواق الأتوبيس» شارك في كتابة القصة السينمائية كل من محمد خان وبشير الديك. «الفتوة» قصة سينمائية صاغها محمود صبحي وفريد شوقي وشارك في كتابة السيناريو، وليس القصة، نجيب محفوظ!! القصة الروائية العظيمة ليست هي الوصفة السحرية الوحيدة ولا هي أيضا المضمونة دائما لتقديم عمل فني ممتع، ولكن يظل المعيار هو قدرة المخرج على أن يمنح القصة الإحساس السينمائي.. الفن السينمائي مرتبط دائما بتعبير الفن السابع، لأنه يجمع في داخله الفنون الأخرى.. القصة، المسرحية، الموسيقى، الشعر، الرسم، العمارة.. هو ليس تجميعا لها بقدر ما هو تفاعل فيما بينها، فيؤدي في النهاية هذا التفاعل إلى الفن السابع.. وذلك عندما تذوب المكونات الأساسية لكل عنصر لنجد أنفسنا بصدد نتاج مختلف. ولهذا، فإن السينما منذ نشأتها في العالم عام 1895 وهي تبحث عن السينما الخالصة. نعم.. بدت السينما في وقت ما مجرد حكاية أو قصة تروى على الشاشة مثلما نقرأها في كتاب. خضعت السينما في البدايات في العالم كله لقالب أقرب إلى الحدوتة أو الحكاية، بل إن الصوت عندما واكب السينما عام 1927 اعتقد البعض أنهم قد وقعوا على صيد ثمين، وهكذا ذهبت كاميرا السينما إلى «برودواي» في أميركا وصورت المسرحيات هناك، وكانت دهشة وسعادة الجمهور عظيمة عندما يرى الممثل يتكلم بدلا من أن يقرأ الكلمات على الشاشة، فهو يستمع للحوار إلا أن هذه الدهشة لم تستمر طويلا، لأن الجمهور صار يبحث عن السينما ولم يجدها بالطبع في تلك الأفلام الممسرحة.. والغريب أن السينما المصرية قبل عشر سنوات عادت مرة أخرى إلى هذا النوع ولكن بأغراض تجارية، حيث كان الهدف هو تعليب المسرحيات على شريط سينمائي، أي إن المسرحية التي يصل مثلا سعر تذكرتها إلى 20 دولار تصبح في السينما دولارا واحدا مع مسرحيات مثل «الواد سيد الشغال» و«حزمني يا» و«عفرتو».. كان الهدف الوحيد من عرض هذه المسرحيات سينمائيا تحقيق هامش ربح يضاف إلى أرباح شباك تذاكر المسرح، إلا أن هذه المسرحيات تخاصم بالطبع روح السينما، ولهذا توقف تجار المسرح عن بيعها وأوقف تجار السينما شراءها.

الأدب والمسرح أحد روافد السينما، ولكن ينبغي خضوعهما لمنطق وقانون السينما. لدينا مؤخرا أكثر من فيلم قُدّم مستلهما الرواية الأدبية «تلك الأيام» عن رواية لفتحي غانم، إخراج أحمد فتحي غانم، في أول تجربة له في مجال الأفلام الطويلة.. مجدي أحمد علي عرض قبل بضعة أسابيع فيلم «عصافير النيل»، قصة للروائي إبراهيم أصلان، الذي سبق أن قدمت له السينما «مالك الحزين» في فيلم «الكيت كات»، إخراج داود عبد السيد. وأيضا يستعد المخرج مروان حامد لاستكمال المشوار مع أدب علاء الأسواني بعد «يعقوبيان»، حيث يقدم له «شيكاغو». وأيضا من المنتظر أن تشهد الساحة السينمائية رواية بهاء طاهر «واحة الغروب»، إخراج هالة جلال، في أول تجربة روائية لها بعد أن قدمت عددا من الأفلام التسجيلية، فقررت أن تبدأ مشوارها في مجال السينما الروائية الطويلة!! الحالة السينمائية تؤكد أن هناك اتجاها جادا نحو الأدب الروائي، إلا أن هذا لا يعني أن السينما في طريقها للتعافي لمجرد أنها تنهل من الأدب!! من الممكن مثلا أن نضع نموذج فيلم «يعقوبيان» والمسلسل المأخوذ عن القصة نفسها.. شارك الفيلم في مهرجان «برلين» وأصبح واحدا من أفضل أفلام 2006، بينما المسلسل الذي حمل الاسم نفسه تبخر سريعا من الذاكرة. فيلم «الكيت كات» عن قصة «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان، وهو أنجح فيلم جماهيري للمخرج داود عبد السيد وأيضا لبطل الفيلم محمود عبد العزيز، وحصد الفيلم عددا من الجوائز الذهبية، سواء في مهرجانات دمشق وبينالي السينما العربية بباريس وقرطاج وغيرها. هذا الفيلم الرائع من الممكن، لو أن القصة نفسها «مالك الحزين» استحوذ عليها مخرج آخر، فنجد أنفسنا بصدد مغامرات «الشيخ حسني» النسائية أو «حسني بوند».. «عصافير النيل» لإبراهيم أصلان تضاءلت كثيرا عندما تحولت إلى فيلم سينمائي.. إن الرهان هو دائما على السينما.. «نجيب محفوظ» مثلا له رواية مأخوذة عن مجموعة «خمارة القط الأسود» باسم «نور العيون» انهارت قيمة القصة رغم أن الذي قدمها للسينما مخرج بحجم «حسين كمال» وكتب السيناريو والحوار «وحيد حامد»، إلا أنهما خضعا لضغوط من «فيفي عبده» فضاعت ملامح القصة إلى درجة أن «نجيب محفوظ» خرج لأول مرة عن صمته وصرح لي في حوار في سبتمبر (أيلول) 1991 بأنه مستاء من الفيلم وأنه يخشى أن يقول له الناس بعد أن يشاهدوا الفيلم «إيه اللي لمك يا نجيب على الرقاصة دي»، رغم أن نجيب محفوظ صاحب مبدأ أن القصة قصة والفيلم فيلم وأن الذي يحاسب على مستوى الفيلم هو المخرج، بينما من حق «نجيب محفوظ» فقط أن يتحمل مسؤولية العمل الروائي.. إلا أن سوء مستوى الفيلم أخرج أديبنا الكبير عن مبدئه المعتاد في مثل هذه الأمور!! نعم.. الأدب يدعم السينما ويمنحنا أفلاما تدخل في نسيج حياتنا وليس فقط في تاريخ السينما، فهل ينسى أحد «دعاء الكروان» لهنري بركات، الذي استمتعنا فيه، ليس فقط بقصة «طه حسين»، ولكن أيضا بصوته في دور الراوي.. إلا أن رائعة «دعاء الكروان» لو ذهبت إلى يد مخرج آخر، فمن الممكن أن نجد أنفسنا نشاهد تحفة «دلعني يا زغلول»!! [email protected]